التأسيس لمفهوم المواطنة إسلاميا
السيد علي عباس الموسوي /1ذو القعدة 1427/
من القضايا التي يسعى لمعالجتها المهتمون بنظرية الحكومة الإسلامية ويعملون على حلّها قضية العلاقة مع الآخر غير المسلم، وقد استوقفني أخيرا الاتهام الذي وجّه لحركة الإخوان المسلمين في مصر بعد صعودها المدوي في الانتخابات التشريعية فتردد على الألسن مطالبة الإخوان وبشكل مباشر بضمانات أو توضيح الرأي فيما يتعلق بالأقليات الدينية في مصر أي مسالة الأقباط، ومهما كان الدافع لطرح مثل هذه الملابسات أمام الإخوان أو أمام أي حركة إسلامية تتبنى أطروحة الإسلام هو الحل، فإنّ مسألة المواطن غير المسلم وعلاقة مشروع الدولة الإسلامية به لا يزال يشكل نقطة الجدل الذي لم يحسم.
إذا أردنا أن نلحظ على المستوى العملي التجربة الإسلامية الإيرانية، فإنّ وصفها بالمتقدمة في هذا المجال هو الحق، ويكفي لذلك ملاحظة التشريعات القانونية الخاصة بغير المسلمين في إيران.
وأما على المستوى النظري فأمامنا أطروحتان قُدّمتا لحل هذه الإشكالية:
الأطروحة الأولى: ما خطه الكاتب المصري فهمي الهويدي في كتابه (مواطنون لا ذميون)، تتميز دراسة الهويدي بكونها دراسة ناقدة تنطلق من نظرة مسبقة إلى الفقه تعتمد على أن الفقه من صنع التاريخ، الأمر الذي يفتح باب المراجعة بل باب الحذف والإلغاء لبعض الاجتهادات الفقهية ، وأساس هذه النظرة تبتني على كون هذه الآراء الفقهية لا تستند إلى النصوص الشرعية من كتاب أو سنة، بل هي تنطلق من قراءة أصحابها للواقع الذي يعيشونه ـ وهذا ما يستحضره الهويدي مكررا، هذا من جهة،
ومن جهة أخرى يشكل تغير العالم الذي نعيشه اليوم عن العالم الذي عاشه أصحاب هذه الآراء الفقهية من غياب فكرة الوطن آنذاك وتولدها الآن تبريرا لرفضها وإعادة دراستها، وان كان لبعض المعاصرين من المنظِّرين الإسلاميين وغيرهم نفس الرأي، فانه أيضا يرجع إلى هذا التأثر بالخلفية التاريخية لعقد الذمة وهم بهذا يخاطبون عالماً غير عالمنا. والإشكالية الأساسية التي تواجه تلك الآراء الفقهية هو أنها بنيت على ما لا وجود له الآن، بل دار الإسلام التي كانت تتحدث عنها كتب التاريخ لم يعد لها وجود إلا في كتب التاريخ.
يرى الهويدي أن إقامة العلاقة الصحية مع الأقليات يتوقف على إيضاح نقاط ثلاث تتمثل في: ملاحظة الإطار الذي تصاغ به علاقة أي أغلبية بأية أقلية في المجتمع المعاصر أولاً، وفي إسقاط الشبهات المدسوسة أو الناتجة عن قراءة خاطئة للنص ثانياً، وفي إسقاط الاجتهادات التي لا تلائم ظروفنا المعاصرة.
لعل أولى ما وضع الهويدي اليد عليه كأساس للبحث في مسالة الأقليات هذه هو وضع النظرة القرآنية ـ النبوية للإنسان على رأس الهرم، فأي فهم لأي نص تشريعي لا بد وأن يبنى على هذه العظمة وهذا الاحترام الذي ينظر من خلاله الإسلام للإنسان، والنصوص التي يمكن استحضارها في هذا المجال متعددة ومختلفة الألسن.
ووضْعُ اليد على المشكلة الأساس في تأسيس مفهوم المواطنة ينطلق من تحديد مصطلح ( دار الإسلام )، فهل يشمل هذا المصطلح خصوص سكانه المسلمين، أو يعم كل من يقيم في بلاد المسلمين وعلى أساس ترجيح كون المراد هو كل بلد تطبق فيه الشريعة الإسلامية، وبهذا يكون الذمي من أهل دار الإسلام.
وكجزء من المشكلة يستحضر الهويدي مصطلح أهل الذمة، ويحاول الخروج من أزمة هذا المصطلح باعتباره منتجاً غير قراني، وإن أقر بكونه مستخدماً في الحديث ولكن على نحو الوصف لا التعريف.
ويؤسس الهويدي لمفهوم المواطنة منطلقاً من الروح العامة للنصوص القرآنية والنبوية ونصوص الإمام علي والفقهاء، حيث يرى فيها تأسيسا للقاعدة.
والمشكلة الأساس التي يصطدم بها مشروع المواطنة لغير المسلمين هو مسالة الجزية، وهنا أمام النصوص الفقهية المتعددة يعتبر الهويدي إن الحل الصحيح هو اعتبار الجزية بدلاً مالياً عن أداء وظيفة القتال، بشاهدٍ هو إن الجزية إنما تفرض على من له أهلية أن يكون مقاتلا دون غيره من غير المسلمين.
هنا إذا ثلاثية يعتمد عليها الهويدي في ما كتبه حول المواطنة والذمة، تشكل النظرة إلى الفقه على انه صناعة تاريخية حده الأول، وتشكل النصوص القرآنية والنبوية المنادية بأصل الكرامة الإنسانية حده الثاني، فيما يشكل الحد الثالث فهم النص الديني النبوي ضمن ظروفه التاريخية، والتفصيل بين ما يكون تشريعا وما يكون حكما معالجا لظروف طارئة.
لا شك في أن قراءة الهويدي هذه تصطدم بإشكالات متعددة، ولعل أهم هذه الإشكالات هو أن النظرية التي تريد أن تعالج فقهياً مثل هذه القضية الشائكة لا يصح أن تعتمد على تحليلات خاصة للآراء الفقهية دون أن تعالج القواعد التي تبتني عليها النظريات الفقهية، فما دام الرأي الفقهي يعتمد على قواعد مؤسسةٍ مسبقاً فلا يمكن إلغاؤها بالاعتماد على التحليل التاريخي أو الاجتماعي.
الأطروحة الثانية: ما كتبه الشيخ عباس علي عميد زنجاني رئيس جامعة طهران الحالي وذلك باللغة الفارسية. ودراسة الشيخ الزنجاني هذه تعتمد على المصادر الفقهية الإمامية، ويستقصي فيها بالبحث كل مفردات الأحكام المتعلقة بأهل الذمة معالجا العديد من القضايا التي تثار حول حقوق أهل الذمة وواجباتهم ونظام التعامل معهم في الدولة الإسلامية.
إن خلاصة عاجلة لدراسة قضية كهذه تتم عبر الانطلاق ضمن نقاط رئيسية تتضمن:
أولاً: فهم النص الوارد في بعض الأحكام المرتبطة بالعلاقة مع الآخر غير المسلم ضمن خصوصيته التاريخية، وهذا ما تشهد له في كثير من الأحيان لغة النص نفسه، وهذا وان كان إطاراً ذا دائرة ليست واسعة النطاق ولكن عملية التعميم في هذه الأحكام هي من الأسباب الرئيسية للمشكلة.
وثانيا: تحديد الدائرة المتحركة المعطاة للفقيه الولي، والمشرِّع للأحكام الولائية التي لها التقدم على سائر الأحكام، والتي يحكمها إطار الاحترام للنفس الإنسانية والمصلحة النوعية للأمة الإسلامية.
وثالثا: التعامل مع مفهوم المواطنة المعاصر لا على أساس انه وافد مستولد عند الآخر، بل على أساس أنَّه حكم تدبيري وضرورة تنظيمية وصيغة تعايش تتضمن حقوقا ومسؤوليات، دون أن يتنافى ذلك مع الطرح الإسلامي للحكم، وفي ذلك يتحدث الشيخ محمد مهدي شمس الدين ( وكونه ـ مفهوم الجنسية ـ غربي المنشأ لا يمنع من كونه مشروعاً من الناحية الفقهية الإسلامية، إذ ليس كل ما هو غربي المنشأ غير مشروع، وخاصة في الجوانب التنظيمية للمجتمع الحديث).
ورابعا: تخلي الآخر عن النظر إلى بعض الأحكام الخاصة به على أساس انه ينطلق من الانتقاص وبمنظار حجاب العنصرية والعداوة الدينية، بل النظر إليه أيضا كعملية تدبيرية تنظيمية.