الشيخ الأعرافي: التفاعل الإيجابيّ والبنّاء بين الأديان والمذاهب حاجةٌ لإنقاذ الحضارة العالميّة
نعتقدُ أنّ الأنظمةَ السياسيّةَ والاجتماعيّةَ غيرُ مبنيّةٍ على أساسِ الثقافاتِ المختلفةِ فقط، بل على أساس جملةٍ من المصادر التي تشترك في أنّ من شانها أن تكون الجامع الذي يوحّد بين الثقافات المختلفة. ويمكنُ للحوار المتّكِئ على هذا المنطق أن يكونَ شاملًا للعالَمِ كُلِّه. ويعتمدُ هذا الموضوع على أساس منطقٍ إنسانيٍّ عميقٍ وأصيل، ويشملُ الفلسفةَ الإنسانيّةَ والنظامَ الحقوقيَّ والفقهَ والنظامَ الأخلاقيَّ المشتَرَكَ. ويجبُ على البَشَرِ التقدُّمُ في هذا المجال بُغْيَةَ الوصولِ إلى هكذا حواراتٍ مبنيّةٍ على أصولٍ عقليّةٍ وإنسانيّةٍ وفلسفيّةٍ.
التفاعُل البنّاءُ والإيجابيُّ حاجةٌ لإنقاذِ الحضارةِ العالميّة
(قُلْ یَا أَهْلَ الْکِتَابِ تَعَالَوْا إِلَی کَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَیْنَنَا وَبَیْنَکُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِکَ بِهِ شَیْئًا وَلَا یَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ) (آلعمران: 64).
يُعَدُّ التفاعُلُ والحوارُ بين الأديان المختلفة، من أهمِّ الضروراتِ وأكثرِها فائدةً في المجتمعات الإنسانيّة والدينيّة في عالمنا المعاصر. ويمكنُ للعلاقات الواسعةِ بين الشعوب وتفاعُلِ البشر فيما بينَهم وتعايشِهم السِّلْمِيّ بعضهم مع بعض، أن يُحدِثَ تقدُّمًا فيما يرتبط بالأهداف الإنسانيّة والبشريّة في عالمنا المعاصر. وفي عصرنا الحالي الذي يتميّز بتعقيداتٍ سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ وثقافيّةٍ أكثرَ من السّابق، يُعَدُّ التفاعلُ البنّاءُ والإيجابيُّ بين الأديان والمذاهب من أهمِّ السِّمات والحاجات لإنقاذ الحضارةِ العالميّةِ ولإيجادِ المحبّةِ بين المجتمعاتِ البشريّةِ، وهذا ما يصلُحُ لأن يكونَ العنوانَ العامّ لجميع المناسبات وفي شتّى الميادين. كما يلعبُ التفاعُلُ المذكورُ دورًا مهمًّا ومؤثّرًا في التقريب بين الأديان وفي المجتمع الإنسانيّ. وتستطيعُ القيَمُ المشتركةُ بين الأديان أن تُلَبِّيَ بسهولةٍ حاجاتِ البشر. ويشكِّلُ التنوُّعُ الدينيُّ وتعدُّدُهُ فرصةً استثنائيّةً للمجتمع الإنسانيّ؛ إذ يؤمِّنُ في إطارٍ من الحوار بين الأديان وتبادلٍ لمكتسباتها، فَهْمًا أَعْمَقَ ورؤيةً أوضحَ للمجتمع الإنسانيّ. ونحن نعيشُ في عالمٍ تلعبُ فيه مقولاتٌ ثلاثةٌ ـ هي الثقافةُ والهويّةُ والعاداتُ ـ دورًا مُهمًّا لا مجالَ لإنكارِه أو الاستغناءِ عنه. فأيُّ تغييرٍ في عالمنا المعاصر، هو في أصله تغييرٌ في الثقافة والهويّة. وفي هذا الصدد، تلعبُ الأديانُ دَوْرًا مُهِمًّا في تشكيلِ الهويّةِ العالميّة. وممّا لا شكَّ فيه، أنّ جميعَ القِيَمِ الإنسانيّةِ التي نعيشُ على أساسها، لها جَذْرٌ في بعض السُّنَنِ المعنويّةِ والدينيّةِ الموجودةِ في العالم. على هذا الأساس، صحَّ أن يُقالَ: إنّ للدِّينِ دَوْرًا لا بديلَ عنه في حياةِ البشر ونَمَطِ حياتِهِم. وقد سعى كلُّ واحدٍ من الأنبياء والرسل (عليهم السلام) إلى إيجادِ نَمَطِ حياةٍ توحيديٍّ، وإلى نَفْخِ رُوح المحبّةِ والأُلْفَةِ في أعماق البشريّة، كما انطلقوا من متطلِّبات المجتمع واحتياجاته، فدعَوْا أتباعَهُمْ إلى أن يُحِبَّ بعضُهُم بَعضًا. فخطَوا بذلك خُطوَةً مُهِمَّةً تُجاهَ إيجادِ مجتمعٍ متّحدٍ منسجمٍ.
التعايُشُ السِّلميُّ بين الأديان من منظور القرآن الكريم
يرى الإسلامُ والقرآنُ أنّ جميعَ الأنبياءِ عبارةٌ عن سِلْسِلَةٍ واحدةٍ مُمتَدَّةٍ، وأنّ الكُتُبَ والصُحُفَ السماويّةَ تُشَكِّلُ منظومةً واحدةً متكاملةً، وأنّ الأديانَ الإلهيّةَ كانت طوالَ التاريخِ الصراطَ المستقيمَ، وأنّها نزّلت بِطَوْرٍ تدريجيٍّ تكامُلِيٍّ[1]. ولقد أشار الله تعالى في كتابه الكريم إلى أنّ الجبهة التوحيديّة كان لها تواجُدٌ على امتداد التاريخ الإنسانيّ، وأنَّ الانبياءَ الإلهييِّينَ كانوا قادتَها وروّادَها[2]. وذكر القرآنُ الكريمُ باحترامٍ وتبجيلٍ ما يقاربُ الثلاثين نبيًّا من بين آلافِ الأنبياء. وتهدُفُ جميعُ الأديانِ الإلهيَّةِ إلى تحقيقِ سعادة البشر ونجاتهم في الدنيا والآخرة. أمّا الرسائل السماويّة فَرُوحُهَا الاعتقادُ بالتوحيدِ وعالمِ الغَيْبِ والأنبياءِ الإلهيِّينَ، والاهتمامُ بالأخلاقِ والقِيَمِ الإلهيَّةِ والإنسانيّةِ. هذا، وليست الدُّنيا من منظور الأنبياء الإلهيّين منفصلةً عن الآخرة؛ فحياةُ الفرد في هذا العالم تمهّدُ لحياته في العالم الآخر. وقد رسمت الأديانُ الإلهيّةُ الخطوطَ العريضةَ الضامنة لسعادة البشر في هذا العالم. وتجدُرُ الإشارةُ إلى أنَّ الأنبياءَ أولي العزم كانوا بمنزلةِ نقاطِ تحوُّلٍ في تاريخ الأنبياء، فَهُمْ أصحابُ شرائعَ عالميّةٍ وكتبٍ سماويّةٍ وبينهم كثيرٌ من المشتركات. هذا، وتزدادُ المشتركاتُ بين الأديان الإبراهيميّة، لا سيّما بين الإسلام والمسيحيّة. ويؤكّدُ القرآنُ على العلاقة الوثيقة والرحيمة بين المسلمين والمسيحيّين، وقد اعترف بهذا الدين الكبير بشكل رسميٍّ، ودعا إلى التعايُشِ السلميِّ مع أتباعه.[3]
تعامُل النبيّ (ص) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) مع الأديان المختلفة
تاريخيًّا، لَعِبَ الأنبياءُ دورًا مهمًّا في توحيدِ المجتمعِ وتعزيزِ المحبّةِ بين أفراده. كما استطاع كلُّ واحدٍ من الأنبياء اعتمادًا على هذه التعاليم وغيرها من التعاليم الأخرى الكثيرة، أن يُوجِدَ نَحْوًا من الوحدة بين أجزاءِ المجتمعِ البشريِّ.
بعد الأنبياء، لَعِبَ الأوصياءُ والعلماءُ دَوْرًا مُهِمًّا على امتداد خطِّ الرسالةِ والهدايةِ البشريّةِ، وتوجّب عليهم القيامُ بالوظائف التعليميّة – التبليغيّة، والتربويّة -الأخلاقيّة والاجتماعيّة المنوطة بهم على أحسن وجهٍ ممكِنٍ. ولطالما أكّدت المعاهدُ والحواضرُ العلميّةُ المبنيّةُ على معارفَ اجتهاديّةٍ وعلى الفكرِ العقليّ – الفلسفيّ، على أهمّيّةِ التباحُث العلميّ بين المفكّرين أَنْفُسِهِمْ وبين المدارسِ الفكريّةِ المختَلِفةِ، وعلى أهمّيّةِ الحوارِ العلميِّ العميقِ بين الأديان والمذاهب، وضرورةِ الابتعادِ عن التعصُّبات والإفراطات السقيمة. وهذا ما يحتاجُهُ عالمنا اليوم أكثرَ من أيّ يومٍ مضى.
ومن يطالع التعاليمَ القرآنيّةَ والروائيّةَ والتاريخَ الإسلاميَّ لا سيّما في عهدِ الأئمّةِ المعصومين (عليهم السلام)، يجدها مليئةً بالضوابط والأحكام المرتبطةِ بكيفيّةِ التعامُل مَعَ أتباعِ الديانات الأخرى. وهذا يتجلّى أكثرَ في عهد الإمام الرضا (عليه السلام) حيثُ توسّعت حدودُ العالمِ الإسلاميِّ، وبدأت العلاقاتُ بين الأديان بالظهور، وزادت وتيرةُ التفاعُلات الثقافيّة والحضاريّة، وأخذت الأفكارُ ترِدُ إلى الحاضرةِ الإسلاميّةِ، سواءٌ المعارفُ المسيحيّة واليهوديّة أم ما يختصُّ بالحضارات الأخرى، كالرومانيّة والإيرانيّة والمصريّة والهنديّة والصينيّة.
في هذه الفترة، ولأجل الحيلولة دون تسلُّلِ الأفكار غيرِ الإسلاميّةِ بين المسلمين، تصدّى القادّة الحقيقيّون للأمّة الإسلاميّة، لبيانِ المعارفَ الإلهيّةِ العالِيَةَ بشكلِهَا الصحيح. عاش الإمام الرضا (عليه السلام) في عصرٍ بلغت فيه المواجهةُ الثقافيّةُ والحضاريّةُ والفكريّةُ أَوْجَها. وإذا ما راجعنا الأحاديثَ الواردةَ عن الإمام الرضا (عليه السلام)، لا سيّما في سنوات حضوره في مرو، لأمكننا بوضوحٍ ملاحظةُ نشاطِهِ المكثَّفِ في مواجهة الأديان الأخرى. لقد كان (عليه السلام) يبيِّنُ المعارفَ الدينيّةَ الخالصةَ من خلال التشبيه والتمثيل لِما لهما من جاذبيّةٍ وقدرةٍ على إيصالِ الفكرة. كما أنّه قدّم في مواجهته لأتباع الديانات الأخرى وسائر المذاهب الإسلاميّة، بل في مواجهته أيضًا للمنحرِفين من الشيعة الواقفيّة، نموذجًا مبهرًا في منطق الحوار مع الأديان الأخرى وكيفيّةِ التفاعل بين الأديان.
نقد النظرة العقلانيّة وما بعدَ الحداثويّة في التعامل مع الأديان
تحتوي معارف أهل البيت (عليهم السلام) مجموعةً من القضايا البديهيّة والـ «ما قبل دينيّة»، وهي المعبّر عنها بالمستقلّاتِ العقليّةِ وبالمفاهيمِ المشتَرَكَةِ العقليّةِ والفلسفيّةِ. وهو ما يعني رفضَها مفهومَ النسبيَّةِ المطلقةِ التي تسدُّ الطريقَ أمام الفهم الصحيح. ليس للنسبيّة المطلقة، لا سيّما تلك المبنيّةَ على ما بعد الحداثة، أساسٌ عقليٌّ أو فلسفيٌّ مُحْكَمٌ. ويعتمد اتجاهُ ما بعد الحداثة على منطق النسبيّةِ التي تجعلُ من الحوار حوارًا سطحيًّا ونفعيًّا. أمّا في المنطق المشيّد على مبانٍ عقليّةٍ وفلسفيّةٍ، فالحوارُ فيه عميقٌ ودقيقٌ، وينطلقُ من مشتركاتٍ عقليّةٍ وإنسانيّةٍ.
وفيما يرتبطُ بالحوار الدينيّ والعقلانيّ، تتمتّع الأديانُ السماويّة بفلسفة حقوقيّة وأخلاقيّة مشتركة. وهو أمرٌ من شأنِه أن يهيِّئَ الأرضيّةَ المناسِبَةَ لحوارٍ دينيٍّ أعمقَ. وتجدر الإشارةُ إلى أنّ الأمورَ المشتركةَ هي أكثرُ بكثيرٍ ممّا يظهرُ لنا اليومَ، ونحنُ نعترفُ بالحوار الدينيّ والإنسانيّ بوصفه أمرًا حقيقيًّا وأصيلًا.
نعتقدُ أنّ الأنظمةَ السياسيّةَ والاجتماعيّةَ غيرُ مبنيّةٍ على أساسِ الثقافاتِ المختلفةِ فقط، بل على أساس جُمْلَةٍ من المصادر التي تشترك في أنّها من شأنها أن تكون الجامعَ الذي يوحِّدُ بين الثقافات المختلفة. ويمكنُ للحوارِ المتّكِئِ على هذا المنطق أن يكونَ شاملًا للعالَم كلِّه. ويعتمدُ هذا الموضوعُ على أساسِ منطقٍ إنسانيٍّ عميقٍ وأصيلٍ، ويشملُ الفلسفةَ الإنسانيّةَ والنظامَ الحقوقيَّ والفقهَ والنظامَ الأخلاقيَّ المشتَرَكَ. ويجبُ على البَشَرِ التقدُّمُ في هذا المجال بُغْيَةَ الوصولِ إلى هكذا حواراتٍ مبنيّةٍ على أصولٍ عقليّةٍ وإنسانيّةٍ وفلسفيّةٍ. وتبتني جميعُ الأديان والمذاهب على عقلانيّةٍ منظَّمَةٍ، تتمحورُ معتقداتُها حول العالَم والمجتمع الهادفَين. وتسعى الأديانُ المختلفةُ، حتى البشريّةُ منها وغيرُ الإبراهيميّة، إلى فَهْمِ العلاقة بين الإنسان والوجود من جهةٍ، وبينَه وبينَ نفسِه من جهةٍ أخرى. وقد سعت، لا أقلّ في إطار المعايير العقليّة والعقلائيّة، إلى تقديم تفسيرٍ واقعيٍّ وصحيحٍ لكلٍّ من الإنسان والوجود.
في الحقيقة، سَعَتْ جميعُ الأديانِ إلى تأطيرِ علاقاتِها في أطرٍ عقلانيّةٍ. وهو أمرٌ يجعلُ حياةَ الإنسانِ ذاتَ معنى، ويَنْعَكِسُ بشكلٍ إيجابيٍّ على أدائِه العمليِّ. لذا كان الرّبطُ بين الدينِ وعقلانيّة البَشَرِ أمرًا في غاية الأهمّيّة. على سبيل المثال، تُعدُّ العدالةُ والمساواةُ، سِمَةً من سمات العقلانيّةِ البشريّةِ التي تظهر على شكلِ المستقلّاتِ العقليّةِ؛ لأنّ العقلَ يحكُمُ بِحُسْنِ العَدْلِ وَقُبْحِ الظُّلْمِ. وفي الإطارِ نَفْسِهِ تَظْهَرُ العَقْلَانِيَّةُ الإنسانيّةُ في صُورَةِ الحُكْمِ بِحُسْنِ السَّلَامِ وقُبْحِ الاعتداءِ وإراقةِ الدِّمَاءِ والحَرْبِ. من هنا أَمْكَنَ أن يُقالَ: إنّ العدالةَ والصُّلْحَ هما المحورُ الذي تَدُورُ حَوْلَهُ جميعُ الأديان والمذاهب، وهي تَسْعَى إلى إدارةِ المجتمعِ على أساسِه. وينبغي الالتفاتُ إلى أنّ هذه العقلانيّةَ نَفْسَهَا هي التي تقتضي من الإنسان رَفْضَ الظُّلْمِ والدِّفَاعَ عَنِ المظلومِ. على هذا الأساسِ، كان السعيُ إلى تحقيقِ العدالةِ والسلامِ، وإلى مجابهةِ الظُّلْمِ، أمرًا مقبولًا، بل ممدوحًا في الأديانِ كُلِّهَا. ولا معنى لتحقيقِ الأمنِ والسلامِ والاستقرارِ في العالم قبل تحقيقِ السلامِ بَيْنَ الأديانِ. ونعتقدُ أنّ الأديانَ البشريّةَ وغيرَ الإلهيّةِ، تستفيدُ مِنْ نَوْعٍ من الشُّمُولِيَّةِ العقلانيَّةِ والسلوكيَّةِ، تكمُنُ في أصلِ عَقْلَانِيَّةِ هذه الأديانِ؛ لأنَّ الأديانَ جميعَهَا تنتمي إلى حُكْمَاءَ بَشَرِيِّينَ استفادوا من العقلانيّةِ الإنسانيّةِ، أو ممّا هو أبعدُ مِنْهَا، بأن كان لهم ارتباطٌ مباشِرٌ مَعَ عقلِ الوجود، أعني: اللهَ تعالى. من هنا، كانت ﴿كلمة سواء﴾ حاضرةً في جميعِ الأديان ذاتِ المنشإِ العقلانيِّ، هذا المنشأُ الذي يهيِّئُنا للتقاربِ والتحاورِ وتقبُّلِ القضايا الإنسانيّةِ الأساسيّةِ.
التفاعُلُ بين الأديان والمذاهب مُبْتَنٍ على منطقٍ عميقٍ وليس ناشئًا عن المجاملةِ والاضطرار
هناك حقيقةٌ أخرى في البين، وهي أنّ التفاعُلَ الحاصلَ بين الأديان والمذاهب ليس ناشئًا عن المجاملة والاضطرار؛ بل يَتَّكِئُ على مَنْطِقٍ عَمِيقٍ وَبِنَاءٍ مُحْكَمٍ. ويمكنُ للأديانِ والمذاهبِ الموجودةِ في عالمنا اليومَ، أَنْ تُشَكِّلَ جبهةً واحدةً مشترَكَةً في العالم، انطلاقًا من القضايا والأصولِ المشتَرَكَةِ فيما بينها في ميادينِ الفلسفةِ والحقوقِ والقِيَمِ والفِقْهِ. وإلى جانب الحقيقةِ المتقدِّمَةِ، لطالما كان للبشريّةِ تعامُلٌ مع قضايا من قبيل: الحاجة إلى استعادةِ روحيَّةِ نشر المحبّة، والأمورِ المعنويَّةِ، والعدالةِ والسلامِ المبتنِيَين على العدالةِ والمساواةِ بين البشر. هذه القضايا، وبقطع النَّظَرِ عن بُعدها السياسيّ، هي أوّلًا وبالذات ذاتُ ماهيَّةٍ دينيَّةٍ، وتلعبُ الأديانُ دَوْرًا مُهِمًّا في بيانها وتحقيقها. أمّا نَحْوُ تحقيقِ السلام المبتني على العدالةِ، وكيفيّةُ مراعاة حقوق البشر، والطريقُ الذي يتعيَّنُ على المجتمعات البشريّة اتِّبَاعُهُ بُغْيَةَ تنظيمِ العلاقاتِ فيما بينها انطلاقًا من الوظائف والتكاليف والتعهُّدات والحقوق المتقابلة، فهي من جملةِ الأمورِ التي يتعيَّنُ على الأديان تحديدُها وتوجيهُ المجتمعات نحوَها من خلال التعاوُن وتبادُلِ الأفكار والمعايير والتجاربِ الخاصّةِ. من هنا، كان عالمُنا اليومَ في حاجةٍ ماسّةٍ إلى تعلّم آداب المحاورة بين الأديان والمذاهب المختلفة. وقد أكَّدَ الإسلامُ والعلماءُ المسلمون مرارًا وتكرارًا على ضرورة التعايُشِ الحكيمِ بين الناس، والحوارِ بين الأديان الإلهيّةِ، وعلى ضرورةِ احترامِ المقدَّساتِ. ولو جُمعَت الأديانُ والطقوس البشريّةُ واتّبَعَتْ حُكْمَ العَقْلِ، لوجدناها تدعو النّاسَ إلى «السعادة» التي يُشَكِّلُ «الاستقرارُ والرَّاحَةُ» أحدَ مكوِّنَاتِهَا الأساسيّةِ. من هنا، كلّما انبرى المفكّرون والعلماءُ الدينيّون للتحاور والتباحث، كان حكمهم طبق ﴿كلمة سواء﴾ ولم يكن بينَهُمْ أيّ تَفْرِقَةٍ أو اختلافٍ.
ضرورةُ التفاعُلِ والحوارِ بين الأديان الإلهيّةِ والمذاهب
في العقدين الأخيرين، كثُر الكلامُ حولَ الحوارِ بين الأديان، حتّى غدا أحدَ أهمِّ الأسئلةِ والهواجس التي تلاحق المفكّرين والمنظّرين الدينيِّين. وليس ذلك من جهةِ التشكيكِ في أصل الحوار وضرورته، وإنّما سعيًا منهم لتوضيحِ متطلِّبَاتِهِ، وبيانِ ضرورَتِهِ وفوائِدِهِ. وثمّةُ ضروراتٌ عديدةٌ جَعَلَتْ من الحوار الدينيِّ أمرًا لا مَفَرَّ مِنْهُ في عالمنا اليومَ، نذكُرُ منها: الضرورةَ المعرفيّةَ، والضرورةَ الأنطولوجيّةَ، والضرورةَ الدينيّةَ، والحاجةَ إلى دفع التوهُّمات، وتعزيزِ الحوارِ بين الأديان. وَمِنَ الوَاضِحِ أنّ الحوارَ الدينيَّ يساعدُ عَلَى فَهْمِ مَعَارِفِ الأديانِ الأخرى بشكلٍ صحيحٍ وواضحٍ، كَمَا يُسْهِمُ في علاجِ العديدِ من حالاتِ سوء الفَهْمِ والأحكامِ المسبقة، ويفتحُ البابَ أمامَ التقاربِ العَقَدِيِّ والقِيَميِّ والسُّلُوكيِّ.
هذا، ولن تستطيعَ الحوزاتُ العلميّةُ أن تستعيدَ دورَهَا التاريخيَّ والأصيلَ ما لم تَكُنْ على معرفةٍ جيّدةٍ بالظروفِ الحاليّةِ والمستقبليّةِ وباحتياجاتِ شعوبِ العالمِ وبالحركاتِ الفرديّةِ والجماعيّةِ المؤسّساتيّة ذاتِ الصِّلَةِ، معرفةً شامِلةً ومدروسةً، حتى تتمكّنَ من تعريفِ منتسِبيها بالجوِّ الحقيقيِّ والموضوعيِّ لدنيا اليوم. فحتى تتمكَّنَ الحوزاتُ من مخاطبةِ الفئة التي تستهدِفُها، يتعيّنُ عليها أوّلًا التعرُّفُ على لُغَتِهَا وأدبيّاتِها وطريقةِ تفكيرِها، وعلى هواجِسِها وقضاياها ومشاكلِها. يجبُ على الحوزات أن تعلمَ كَيْفَ يُفَكِّرُ مخاطَبوها وما الذي يتوقّعونه منها. ستُنجَزُ هذه المهمَّةُ العظيمةُ عندما يُدرَسُ تاريخُ المخاطَبين وجغرافيّتُهُم من قِبَلِ أشخاصٍ فاعلين واعتمادًا على الأدواتِ المناسِبَةِ والأسلوبِ الصحيحِ والمناهجِ الأصوليّة، وعندما يُلتَفَتُ إلى جميعِ الأمورِ المؤثِّرَةِ والفَعَّالَةِ، مِنَ الأدواتِ المستخدَمَةِ إلى الخطواتِ العمليّةِ والمضامينِ التبليغيّةِ. فليس التواجُدُ العلميُّ والثقافيُّ للحوزويِّين في مختلفِ المحافِلِ الدَّوْلِيَّةِ أَمْرًا مُمْكِنًا إلَّا مِنْ خِلَالِ زيادةِ قُدْرَتِهِمْ ورَفْعِ مُسْتَوَى مَعْرِفَتِهِمْ وبَصِيرَتِهِمْ.
يوجَدُ عِدَّةُ نَظَرِيَّاتٍ حَوْلَ التَّقَارُبِ والتَّفَاعُلِ بَيْنَ الأَدْيَانِ:
في النظريّة الأولى، كان السعيُ وراءَ دَمْجِ الأديان بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَجَعْلِهَا دينًا واحِدًا. وهي نظريَّةٌ نُخالِفُهَا؛ إذ لا مجالَ للقولِ بها فلسفيًّا، فضلًا عن كونها غيرَ واقعيَّةٍ، ولا مجالَ لتحققّها خَارِجًا. أمّا النظريَّةُ الثانيّةُ، فتدعو إلى أصل التديُّن دون اعتناق دينٍ معيَّنٍ، وهي النظريّةُ المطروحةُ اليومَ في الغرب. طبقًا لهذه النظريّةِ، يجبُ التخلّي عن الفوارق بين المذاهب والتركيزُ على المشتركات فقط، وهذا أمرٌ غيرُ مقبولٍ أيضًا. والنظريّة الثالثةُ هي التعدّديّةُ الدينيّةُ، التي يعتقدُ القائلون بها بِصِدْقِ جميعِ الأديانِ والمذاهبِ وصحّتِها. وهي، كالنظريّةِ الأولى، مرفوضةٌ فلسفيًّا، لأنّه لا يُمْكِنُ عقلًا الحكمُ بصحّة جميع الرؤى وصِدْقِهَا. أمّا النظريّةُ الرابعةُ، وهي التي يعتقدُها المسلمون وأتباعُ مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، فمُفَادُهَا احترامُ الأمورِ المشتَرَكَةِ بينَ الأديان. وفقًا لهذه الرؤية، لا ينبغي لنا القولُ بكُفْرِ غير المنتسبين لهذه المدرسة وباستحقَاقِهِمُ الموتَ، بل يَجِبُ علينا وضعُ القتلِ جانبًا، والتخلّي عن مقولة نحن أهلُ الجنّة وغيرُنا في النار. أمّا في نقاط الخلاف مع سائر المذاهب والأديان، فالمجالُ مفتوحٌ للنقاش والتحاور.
ونواجِهُ في عالمنا الإسلاميِّ اليومَ عددًا من التحدّيات، من قبيل: التحدّيات العَقَدِيَّة – الفِكْرِيَّة، والتحدِّيات الأخلاقيّة وانهيار نظام القِيَم، وتحوُّلِ طَرَفَي الحرب والنزاع من المسلمين والمستكبرين إلى السنّة والشيعة، وإحياءِ الفكرِ القوميِّ، وتجْزِئَةِ الدُّوَلِ الإسلاميّةِ، والخوفِ من الإسلام، والخشيةِ من الشِّيعَةِ، والذُّعْرِ مِنْ إيران، واستبدال الخطاب الإسلاميّ الطالبّانيِّ المتحجِّرِ أو الإسلاميِّ الليبراليِّ التنويريِّ بخطابِ الثورةِ الإسلاميّةِ، وكَسْرِ جبهةِ المقاومةِ. ويمكنُ للحوزة العلميَّةِ أن تُجِيبَ عن هذه التحدّياتِ من خلال فَهْمِ الجغرافيا المعرفيّة للعالم، واعتمادًا على نشاطَاتِها الدينيّةِ.
وهناك أمورٌ أخرى لا بدّ منها إذا ما أردنا إيجادَ تفاعُلٍ بين الأديان، من قبيل: التعريفِ بآراءِ علماءِ الحوزة العلميّةِ في الحواضر العلميّةِ الدينيّةِ العالميّةِ، وحضورِ الحوزويّين واطّلاعِهِمْ على القضايا العالميّة المرتبطة بالأديان الأخرى وعلى كيفيَّةِ التعامُلِ مَعَ عُلَمَاءِ تلك الأديان، وضَرُورَةِ فَهْمِ الدياناتِ الأخرى بشكلٍ صحيحٍ، ودراسةِ علم اجتماعِ الدِّينِ والتاريخِ وموقعيّةِ الأديان في العالم المعاصر، ومتابَعَةِ الأبحاثِ والدراساتِ العالميّةِ التي تتناولُ المعارفَ الإسلاميّةَ الأصيلةَ، بل المساهمة فيها كتابةً وتصحيحًا، وبيانِ ضرورةِ تهيِئَةِ الأرضيَّةِ الثقافيَّةِ اللّازِمَةِ بحيثُ يكونُ للحوزويّين تأثيرٌ على الساحةِ العالميّةِ، والتشاوُرِ والتعاوُنِ بينَ الأديانِ في مواجهةِ المشاكلِ التي تُهَدِّدُ مصلحةَ البشريَّةِ جمعاء، وحاجتِنا اليومَ إلى ثورةٍ دينيّةٍ تملأُ الفراغَ المعنويَّ لدى البشر، والعلاقاتِ الوثيقةِ والمنظَّمَةِ بينَ النُّخَبِ والمؤسّساتِ والجهاتِ الدينيّةِ الفاعلةِ بُغْيَةَ العَمَلِ مَعًا على السَّاحَةِ الدينيّةِ العالميَّةِ، وضرورةِ الخروجِ عن الحالةِ الانفعاليّةِ والحضورِ الفعَّالِ في الحوار الدينيِّ والمذهبيِّ وتبليغِ معارفِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) وتَعْزِيزِ مَكانَتِهَا في قِبَالِ الأديانِ والمذاهب الأخرى.
وانطلاقًا من وجودِ ضروراتٍ يقتضيها البحثُ الدينيُّ، فإنَّ الحوزةَ العلميَّةَ مصمِّمَةٌ على تبنّي سياسياتٍ كُلِّيَّةٍ ووضعِ أهدافٍ وأولويّاتٍ واستراتيجيّاتٍ عامَّةٍ ـ طويلة الأمد ومتوسّطة الأمد وقصيرة الأمد ـ والعمل على وفقِهَا، وعلى دراسةِ نحوِ تعامُلِهَا مع المؤسّساتِ الدَّوْلِيَّةِ ـ الرسميَّةِ منها وغيرِ الرسميَّةِ ـ الفاعلةِ على السَّاحَةِ الدينيّةِ. كما أنّه من الضروريِّ مراقبةُ سَيْرِ الأنشِطَةِ والفعّاليّات الدينيّةِ، والتأكُّدِ من حُسْنِ تنفيذِهَا، ومن فعاليَّةِ العَمَلِ الحوزويِّ المنظَّمِ، حتى يكونَ حضورُ الحوزةِ في المحافلِ الدينيّةِ العالميّةِ بالشَّكْلِ المطلوب.
[1] كما في الآية 25 من سورة الحديد (لَقَد أَرسَلنا رُسُلَنا بِالبَیِّناتِ وَأَنزَلنا مَعَهُمُ الکِتابَ وَالمیزانَ لِیَقومَ النّاسُ بِالقِسطِ).
[2] ومن ذلك ما جاء في الآية 46 من سورة النساء (وَما أَرسَلنا مِن رَسولٍ إِلّا لِيُطاعَ بِإِذنِ اللهِ).
[3] من ذلك ما جاء في الآية 82 من سورة المائدة (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِکَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّیسِینَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا یَسْتَکْبِرُونَ).
الكاتب: آية الله الشيخ علي رضا أعرافي/ رئيس الحوزات العلمية في إيران