هل امتلاك الرؤية التاريخية شرط للاجتهاد
الشيخ أحمد المبلغي
يری الكثير من أصحاب النظر أن الرجوع إلى السوابق التاريخية للفقه أو الاصول أو الحديث أو الرجال ليس له أي أهمية قصوى بل وحتى لو كان له مثل هذه الأهمية فإنها لا تبلغ إلى درجة أن تجعله شرطـًا مقومًا للاجتهاد. والذي أميل إليه هو أن امتلاك الرؤية التاريخية أمر ذو أهمية بالغة إلی حد يلعب دوراً أساسياً وفعالاً في تحقيق النتائج الفقهية الصحيحة. وبسبب ثبوت هذا الدور لابد من اعتباره شرطا من شروط الاجتهاد.
تعريف الرؤية التاريخية :
وقبل أن نشرح الادوار التي تلعبها الرؤية التاريخية في الفقه أو الاصول – والتي نعتمد عليها لإثبات دعوی كونها شرطاً للاجتهاد – نشير إلی تعريفها فنقول إنها تعني الرؤية المتعلقة بالقضايا التاريخية الحاصلة حول علم الفقه أو مسائله أو حول علم من العلوم اللصيقة بالفقه أو مسائله يتم امتلاك الفقيه لها من خلال مطالعته وممارسته التحليلية في تاريخ الفقه أو علم من العلوم ذا صلة به.
الأدوار التي تلعبها الرؤية التاريخية في عملية الاستنباط:
يمكن أن نوجز هذه الادوار فيما يلي :
الدور الأول:
الإسهام في التقعيد لعملية التنظير وتركيز وتعميم الابداعات فيها.
من المؤسف أن علوم الفقه والاصول والرجال والحديث قد توسعت في المسائل فقط ولم يتوسعا في التنظير الفقهي أو الأصولي أو الرجالي ، فعلى مستوى التتبع نجد هذه العلوم قد تضخمت في الكثير من المسائل ولكن لم تتوسع كثيرا على مستوى إنتاج النظريات الفقهية أوالاصولية أو الرجالية أو الحديثية أو إنتاج النظريات المرتبطة بهذه العلوم نفسها.
ومن الفوائد المترتبة علی حصول الرؤية التاريخية في الفقه أو الأصول أو الرجال أو الحديث مساهمتها بشكل كبير في تقعيد وتفعيل عملية التنظيروخلق وتعميم الابداعات فيها ، بمعنى آخر أن العنصر التاريخي من شأنه أن يفتح الآفاق لعملية التنظير ويلعب دوراً فعالاً في إيجاد وإبراز الكثير من النظريات في هذه العلوم .
وكمثال على ذلك نطرح نظرية السيد البروجردي في الإجماع وقد اشتهرت بنظرية الإجماع أو الشهرة في دائرة الأصول المتلقاة، وهذه النظرية تتميز عن غيرها بأنها بنيت على أساس رؤية تاريخية للفقه ، فالمنطلق الذي انطلق منه هو منطلق تاريخي حيث رأى أنه و بعد عصر الأئمة(ع) عمد الفقهاء في زمن طويل إلى الاستنكاف عن التفريع حيث كانوا يتناولون المسائل الفقهية بشكل لا يخرج عما هو مأثور عن الأئمة(ع)، فهم استعملوا نفس أدبيات الأئمة(ع) بحيث لم يخرجوا عنها ، كما حاولوا البقاء في دائرة المسائل المطروحة من قبلهم (ع) فنجد مثلا ً كتبهم الفقهية مشتملة على مسائل خاصة ومتقيدة بنفس عبارات الأئمة (ع) أو مقتربة منها أشد الاقتراب ،
لهذا فالسيد البروجردي انطلاقـًا من هذه الواقعة التاريخية قام بالتنظير لمسألة الإجماع، حيث قال: لو حصلت فتوى مجمع عليها من طرف فقهاء هذا العصر الذين كانوا يعتمدون على أقوال الأئمة (ع) وأصحابهم، فهذه الفتوى تحكي عن رأي الأئمة وعن الفتوى التي كانت رائجة في زمنهم (ع) وزمن أصحابهم. إذا فالعنصر الأساسي الذي جعله يأخذ بهذه النظرية هو العنصر التاريخي الذي كشف له عن خصائص الفتوی وظروف صدورها، وهذا بخلاف بعض النظريات التي طرحت حول الإجماع فهي نظريات انتزاعية علمية بحتة قد لا يكون لها أي علاقة بالواقع.
ونفس الشيء في مجال علم الحديث، فالوسيلة التي نعتمد عليها لتمييز الصحيح من الضعيف هو علم الرجال فقط وهو الأداة المعتمدة لمعرفة الصحيح من الضعيف من غيره . نعم في سالف الأزمان كانوا يعتمدون على القرائن المتنية ولكن هذا المنهج مع مرور الزمان قد تم إهماله إلا أنه يوجد دعوة إلى الرجوع إلى هذا المنهج في الوقت الراهن،إذن فنحن أمام وسيلتين أو أداتين لتمييز الحديث الصحيح عن غيره ، وسيلة علم الرجال وتجميع القرائن المتنية، و هناك طريق ثالث وهو أن نرجع إلى تاريخ صدور الأحاديث وزمنها بهدف كشف خصائص تتسم بها هذه الاحاديث .
فلو تم هذا الرجوع إلی التاريخ نجد أن الاحاديث صدرت في أزمنة مختلفة من حيث الظروف والوقائع ، فالروايات التي وصلتنا عن الإمام الحسين(ع) تختلف من حيث المواضيع والملابسات والمضامين والادبيات عن الروايات التي صدرت في زمن الباقرين(ع)، وهذا أمر طبيعي لاختلاف طبيعة المجتمعات وظروفها ولعل هذا النظر التاريخي يدفعنا إلى التنظير للحصول على معايير خاصة ربما تكون أدوات وآليات لتمييز الأحاديث، فلو حصل مثلا ً خلاف حول هل أن هذا الحديث صدر عن الإمام الرضا(ع) أو الامام الصادق (ع) فإننا نرجع إلى مميزات روايات كل إمام والى الخصائص التي كشفنا عنها والظـروف التي صــدرت فيها تلك الروايــات والجــامــع المتميز الذي يجمع روايات كل إمام على حدة،
لنقول ان هذه الرواية هي من الإمام الصادق(ع) مثلاً ولا يمكن أن تكون من الإمام الرضا(ع) لأن مضامين أو أدبيات هذه الرواية تتفق مع المميزات والخصائص العامة التي كانت في زمن الإمام الصادق(ع) ولرواياته , ولا تتفق مع المضامين المطروحة في زمن الإمام الرضا(ع)، وبهذا يتبين أن من شأن الدراسات التاريخية إيجاد معايير ربما تساعدنا على تمييز الأحاديث من غيرها, ولو أننا نحتمل ذلك فهذا يدعونا إلى بذل الجهد والوسع لإعطاء هذا الأمر الأهمية التي تستحقه ومن المؤسف كما قلت ان هذا الأمر يكاد يكون منعدمًا في دراستنا الفقهية.
الدور الثاني :
الإسهام في الكشف عن النظريات والخبرات والتجارب التي اندرست في التاريخ وإعادة اكتشافها و دمجها في مسارها التنموي الصحيح:
إنه بالرجوع إلى التاريخ يمكننا أن نكشف عن النظريات التي ماتت في فترة من التاريخ , فلا يمكن أن ندعي أن كل نظرية طرحت في السابق وصلت إلينا، فيمكن أن تكون هناك نظريات طرحها السابقون ولكنها لم تصل إلى أيدينا لأسباب معينة , إما لكونها كانت تشكل نظرية شاذة في ذلك الزمان والذين أتوا فيما بعد لم يأخذوا بها لهذا الاعتبار فأهملوها لخوفهم من انتشارها , أو أن الظروف السياسية ساهمت في إلغائها , وتغييبها عن الساحة العلمية , فلابد إذن من التسليم بفرضية أن هناك الكثير من النظريات العلمية قد زالت ، ومن هنا تختلف رؤيتنا حول النظريات الزائلة مع النظريات الغير زائلة , ولهذا نخلص إلى فرضية أن النظريات الزائلة لو قدّر لها البقاء فإنها بكل تأكيد كانت ستترك أثرًا على العلم بل كان بإمكانها تغيير مساره لكنها لم تستمر وبغيابها غاب تأثيرها ,
ولو كانت لنا حفريات تاريخية وكشفنا بها عن تلك النظريات الزائلة فإننا نتمكن أن نبني عليها كثيرًا من النتائج المختلفة عما هو كائن الآن , فمثلا ً أن نقول عن هذه النظرية لماذا طرحت , وهل هي كنتيجة معقولة لما قبلها وبالتالي بالإمكان تفعيل تلك النظرية أو تفعيل المناشئ التي أدت إلى بروز تلك النظرية ,وكلا الأمرين مهم لفهم نظري أوسع ,و هناك فائدة أخرى مترتبة على فرضية زوال هذه النظرية او تلك وهو معرفة تطور مسيرة العلم , فالعلم الحاصل لدينا هو نتيجة غياب تلك النظرية , فلابد أن نكسر الإطار الذهني الذي نحن مقيدون فيه , فكسر الإطار يجعلك تخرج وتتفطن لما يوجد خارج هذا الإطار , كما يعطيك على صعيد البحث مرونة و حرية أكثر.
الدور الثالث:
الإسهام في الكشف عن وضع السيرتين العقلائية و المتشرعية من حيث امتدادهما أو عدم امتدادهما إلی زمن الأئمة (ع).
إن الملاحظ في كتبنا الأصولية في الحقبة الأخيرة ، بروز تفعيل ملموس لمسألة السيرة العقلائية والمتشرعية بل تعدى الأمر إلى تفعيل مرتكزات هذه السير، و مع ذلك فان بحث السيرة العقلائية لم يفعّل بشكل علمي دقيق ..و لو فعّل بهذا الشكل لحصلنا على نتائج مهمة تجعل الفقه يواكب مسيرة المجتمع بشكل خلاّق.
إن الكثير مما نعتقد أنها سير عقلائية و متشرعية ممتدة إلى زمن الأئمة(ع) هي في الواقع خلاف ذلك، فقد يكون أصل منشأها ظرف خاص حصل خلال القرن الثامن ولا علاقة له بزمن الأئمة (ع) ، ولأنها شكلت مرتكزًا خاصًا في ذلك الزمان بنينا نحن فقهنا على ذلك المرتكز الذي كان بناءه على غير ما كان سائدًا زمن الأئمة(ع) ،وعلى العكس تمامًا فإن هناك الكثير من السير العقلائية تمتد فعلا إلى زمن الأئمة(ع) ولكننا نشك فيها و بالتالي فإننا نهملها و نطرحها, وبالنتيجة فالبحث التاريخي كفيل بتتبع هذه الحقائق التاريخية لإبرازها والاستفادة منها بل قد يكشف لنا عن سير متشرعية فعلية ممتدة إلى زمن الأئمة(ع) .
إن مطالعة التاريخ قد يكشف عن نكتة تاريخية أو شخصية تاريخية ربما لا ينفع بشكل مباشر في عملية الاستنباط، ولكن بما هو معطى تاريخي قد يساهم بلا شك في صنع وصياغة ذهنية الفقيه و يجعله يتناول القضايا الفقهية بروح جديدة.
الدور الرابع:
الاسهام في متابعة وتقصي العناصر الاصيلة والحية المتوفرة في استنباط مسائل القديم واعادة دمجها في توجهات الفقيه لاستنباط المستجدات.
محاولة إدراج عنصر التاريخ في العملية الاستنباطية ، بمعنى أنه من كان ممتلكـًا لهذه الرؤية التاريخية فهو ينظر إلى هذه العملية بعين شفافة بخلاف من لا يمتلكها فإن من يكون بيده هذا المصباح فهو ينير له الطريق في عمليته الاستنباطية وهذا لا يمكن إنكاره ، فالكثير من الحقائق التاريخية إذا أهملناها و لم نبحثها فسوف نصل إلى نتائج خاطئة في الاستنباط الفقهي , ولهذا نقول إن الحقائق التاريخية تفتح أمامنا نقط مهمة تكشف لنا عن أشياء كثيرة لها مدخلية في إدراك المسائل الفقهية .
الدور الخامس:
الإسهام في تحرير الذهن من سيطرة الخلفيات التي تلعب دور الاطر والمنطلقات لعملية التفكير.
إن المطالعة التحليلية لتاريخ الفقه أو لتاريخ مسألة من مسائله مما يفسح المجال للتدقيق في الخلفيات التي سيطرت على أذهاننا والتي حكمنا من خلالها على الكثير من القضايا، فجملة عظيمة من الآراء التي نختارها قد تبدو لنا بحسب الظاهر انها آراءنا مع أنها في باطنها هي آراء الآخرين . فالتحول الفكري لا يفهم الا في سياق قراءة التاريخ , فلابد من دراسة تطور الأفكار حتی نفهم كيف اعتمد اللاحقون على السابقين وكيف ساهمت تلك الأفكار للسابقين في توليد نظريات لللاحقين .
وفي اطار ما سبق ذكره فانه يمكن القول بأن إقصاء عنصر امتلاك الرؤية التاريخية يؤدي إلى أخطاء و اشتباهات كثيرة ، فالانفتاح عليها يعصمنا من الوقوع في الكثير من الأخطاء، فلابد لذلك من اعتباره شرطـًا أساسيًا للاجتهاد .
فإذا كان المنطق يذكركشرط لعملية الاجتهاد – مع أن المنطق ليس له ذلك الدور الاساسي حيث إن الإنسان يستعمل المنطق بشكل بديهي، الا أنه بلحاظ ما يوجد لبعض المسائل في المنطق من مدخلية في التقاط بعض النكات الفقهية والفقهاء أوجبوا دراستها , لحساسية وخطورة العملية الاستنباطية – فكيف حال وشأن الرؤية التاريخية التي لها مثل تلك الادوار المشار إليها ، فإن الكثير من آرائنا يبقى متأثرًا برؤياتنا التاريخية سعة أو ضيقا .
والحقيقة أننا إذا رجعنا إلى تاريخنا الفقهي والأصولي نجد أنه كلما برزت مدرسة أو شخص اعتمد على بعض الرؤى التاريخية في أبحاثه إلا و تحقق لنا بفعل ذلك فتح علمي هام،و نحن نلاحظ كيف أن علم الأصول والفقه مثلا قد عرف عصره الذهبي في التطور والإنتاج في مرحلة الصراع الإخباري الأصولي , فصحيح أن الإخباريين لم تكن لديهم أفكار صحيحة ومنها عدم امتلاك بعض الرؤى التاريخية في طرحهم لنظرياتهم، غيرأن خطأ الإخباريين يكمن في عدم الدقة في التاريخ وفي تحليل التاريخ ، لافي أصل رجوعهم على مقتضى منهجهم الفقهي إلی التاريخ .. فهم في أصل الرجوع إلى زمان الأئمة(ع) وإلى الأزمنة التي تلته وبناء آراءهم الفقهية على نتائج هذا الرجوع عملوا عملا صحيحًا ،ولكن آلياتهم كانت غير دقيقة، فتحليلهم التاريخي للنصوص وفقـًا لمبان كلامية خاطئة ,أدى بهم إلى نتائج خاطئة, فالرجوع إلى التاريخ على أساس مبان مغلوطة لا يثمر بل يؤدي إلى اشتباهات بطبيعة الحال.
لعل هذا الجو جو الصراع العلمي بين التيارين الإخباري و الأصولي كان له الأثر الكبير في تطور أصول الفقه حيث اندفع الأصوليون في عملية رجوع إلى التاريخ أثمرت نتائج ضخمة نذكر منها بالخصوص ما أنتجه الوحيد البهبهاني في هذا الأمر إلا أنه مع الأسف الشديد ومع ضمور الحركة الإخبارية تم التراجع عن الاستعانة بالتاريخ في معرفة القضايا الفقهية.