الامام الخميني وهموم الاصلاح في الحوزة العلمية
الشيخ حيدر حب الله – 8 جمادى الأولى 1427ه
عندما نتحدّث عن الإمام الخميني والمؤسّسة الدينية، فنحن نتناول موضوعاً شائكاً غير عادي في حدّ نفسه؛ لأنّ المؤسّسة الدينية ليست مجرّد مؤسّسةٍ عادية في المجتمع الديني، كما أنّ الإمام الخميني ليس شخصيّةً عاديةً في هذه المؤسسة، وفي مشروع الإصلاح عموماً.
1 ـ ومن خلال تشابك الأمر، نلاحظ أنّ الشخصيّات الكبيرة كثيراً ما يجري تسليط الضوء على جوانب منها دون أخرى، وكثيراً ما يكون ذلك بسبب الحاجة التي يراها الباحث؛ فيلتمس من أحد أبعاد الشخصيّة ما يرفد تصوّراته، أو يقوم ـ أحياناً ـ بإسقاط أفكاره عليها؛ بغية توظيفها والاستفادة منها، وهو خطأ يجدر بالباحث الحصيف تجاوزه وتخطّيه، وثمّة عيّنات من هذا الأسلوب في التعامل مع الشخصيات الكبيرة، ومن ذلك ـ في رأينا ـ تغييب البعد الإصلاحي أو بعض الأبعاد الإصلاحية في شخصيّة الإمام الخميني على صعيد الحوزات الدينية، وهو ما سنسلّط الضوء عليه هنا، رغم عدم القدرة في هذه العجالة على استشراف تمام مفاصل هذا البُعد؛ من هنا ستكون هذه الإطلالة إضاءةً على القليل من المغيّب مؤخّراً في بعض الأوساط الحوزوية حول رؤية الخميني لهذا الموضوع، وإفصاحاً عن المسكوت عنه في هذا الجانب.
2 ـ أوّل عناصر الإصلاح الخمينوي في الحوزة العلمية هو استحضار الواقع ووعي الزمان؛ فالإمام الخميني لا يرى من المسموح بعد اليوم أن يكون المرجع غير معنيّ بالحياة السياسية والاجتماعية للناس، ينـزّه نفسه عن الدخول في اليوميات على أساس أنه كلّي وعام، ولا يحضر في واقع الحياة على أساس أنّه يؤتى ولا يأتي.
لم تقف القضيّة عند هذا الحدّ، بل طوّر الخمينيّ من هذا الموضوع أواخر حياته، عندما رأى أنّ الزمان والمكان يلعبان دوراً في الاجتهاد، وفي سياق نصّه الشهير هذا يركّز على ملاحظة الموضوعات في ظلّ التعقيدات الحالية للحياة السياسية والاجتماعية (صحيفة نور 21: 98)، وهذا يعني أنّ الصورة البدويّة الأولية التي يرسمها فقيهٌ ما عن موضوع الحكم لم يعد يمكن الاعتماد عليها دوماً، بل إنّ ما يتراءى لنا اليوم أنّه موضوعٌ للحكم الفلاني، ربما لو اطّلع الفقيه على تعقيدات الحياة الاجتماعية والسياسية الجديدة لرأى أنّه لم يعد هذا المورد موضوعاً لهذا الحكم، بل موضوع لحكم آخر،
إذاً فهناك رابط وثيق بين الحضور المعرفي للفقيه في مجال تغيّرات الحياة وبين رؤيته الفقهية التي أصدر الحكم على ضوئها، ولا يصحّ من الفقيه أن يكتفي بالأجوبة التعليقية التي تستبطنها بعض الفتاوى؛ لأنّ الموضوعات التي يلزم منها لو ألقيت إلى الآحاد من الناس الهرجُ والمرج تغدو من شؤون من يملك الإشراف على الشأن العام ومنهم الفقيه نفسه، بوصفه حاكماً شرعياً، ومن ثمّ لا يمكن له التنحّي عن تحمّل مسؤولياته في هذا المجال من هذه الزاوية، وإن كانت وظيفته ـ بوصفه مفتياً لا بوصفه مرجعاً عامّاً للمسلمين؛ للفرق بين الإفتاء والمرجعية ـ أن يضع الحكم الكلّي على موضوعه الكلّي.
3 ـ ومن خلال هذا المنطلق، يحدّد السيد الخميني رؤيةً أكثر جذريةً للتفكير الذي ينبغي للفقيه حمله إزاء قضايا الدين، وتبدأ ترتسم في ذهنه صورة عن مدرستين داخل الحوزة العلمية: مدرسة التحجّر والقشرية، التي ينتقدها في بعض نصوصه بشدّة، ومدرسة الصورة الكليّة الشموليّة للإسلام، التي لا تغرق في ملاحقة المفردات الفقهية، مقتطعةً كلّ جزء منها عن الجزء الآخر، لهذا نجده على الصعيد الثاني يركّز على ذوبان المفردات الفقهية في النظرة الحكومية للإسلام، فعندما يفهم الإمام الخميني الفقه صورةً واحدة مترابطة الأجزاء تعدّ الدولة مختبرها كما تعدّ مظهرها وموطن تجلّيها فهو يصيّر الإسلام والشريعة كليّةً، أي ينظر إليهما بوصفهما كلاً واحداً ذا أجزاء، إنه يرى درجةً من الترابط بين الأجزاء، لا أنّه يفترضه ويوكله إلى العلم الإلهي فحسب، ومن ثمّ هل يصحّ بعد اليوم بحث موضوع الحج ـ مثلاً ـ بمعزل عن رؤية شمولية للتصوّر الفقهي الإسلامي للحياة؟!
4 ـ أمّا على الصعيد الأوّل، أي مدرسة القشرية والتحجّر، فللإمام الخميني موقف قاطع وواضح وصريح وجرئ في الوقت عينه، إنّه يقول ـ في رسالته الجوابية لآية الله محمد حسن قديري، بعد أن يتأسّف وينتقد التفكير الفقهي الموجب لاندثار المدنية الحاضرة وعودة البشرية إلى عصر الأكواخ وزمن البدائية، أو عيشهم في أطراف الصحاري على حدّ تعبيره هو نفسه ، يقول ـ : «.. لكنني أنصحكم نصيحةً أبوية أن تسعى لملاحظة الله وحده، وأن لا تقع تحت تأثير المتظاهرين بالقداسة ورجال الدين الأميين؛ ذلك أنه إذا كان إعلان حكم الله ونشره يلحق الضرر بمكانتنا عند أولئك المتظاهرين بالقداسة الحمقى والمشايخ الجاهلين، فليكن، وليزدد الضرر اللاحق بنا نتيجته» (صحيفة إمام 21: 150 ـ 152).
إنّ الإمام الخميني كان يتكلّم في هذه الرسالة جواباً عن أولئك الذين حملوا عليه بالنقد والتشهير في الحوزات العلمية لمّا تحدّث عن فتواه الجديدة في الشطرنج، ولم يكن يقصد سوى ذلك التيار الذي نعته هنا بأشدّ النعوت، وهو أدري بما قال وأعلم، ولم يكن الخميني هادفاً تجريح أحد، كما لم يكن رجلاً سيء الخلق مع العلماء، لكن مثل هذه المواقف إنما تكشف عن عمق الهوّة، وهو يرسل هذه الرسالة قبل قرابة العام من وفاته، في إشارةٍ نراها ضروريةً لدراسة شخصية الإمام الخميني عموماً، وهو تطوّره في تكوين رؤاه بمرور الزمان وخوضه التجارب.
كان الإمام الخميني قد عانى منذ زمنٍ بعيد من تكفير بعضهم له وتنجيسهم لابنه مصطفى، كما يصرّح هو نفسه بذلك في رسالته الشهيرة إلى علماء الدين قبل أشهرٍ بسيطة من وفاته ، ففي الوقت الذي بدأ فيه رسالته هذه بكلّ المديح والإطراء للمؤسسة الدينية، إطراء مذهل لا مثيل له ربما (صحيفة إمام 21: 273 ـ 275)، شنّ واحدةً من أعنف انتقاداته ضدّ بعض تياراتهم التي وسمها بالمتحجّرة،
إنه يقول: «واليوم هناك جماعة ممن تلبّس بلباس التقدّس يضرب أساس الدين والثورة والنظام حتى كأنه لا عمل لهم غير ذلك، إنّ خطر المتحجّرين والمتظاهرين بالقداسة الحمقى ليس قليلاً في الحوزات العلمية، وعلى الطلاب الأعزاء أن لا يقصّروا ـ ولو للحظة ـ في التفكير بأمر هذه الأفاعي الرقطاء، إنهم يروّجون الإسلام الأمريكي، وهم أعداء رسول الله…»، ثم يقول: «.. إن ما عاناه أبوكم الشيخ العجوز من هذه الفئة المتحجّرة لم يره من أيّ ضغوط أو مصاعب من الآخرين..» (صحيفة إمام 21: 278).
وفي نصٍّ لطالما أرّق مفهومه الكثيرين من المتصدّين للعمل الإسلامي، يقول الإمام الخميني: «يزعم بعضهم أن علماء الدين يغدون محلاً للاحترام والتكريم عندما يغرقون من رأسهم إلى أخمص قدميهم في السذاجة والحماقة، أمّا العالم الديني العامل والسائس والنشط والفاهم فأمره مريب!.. كانوا يعدّون دراسة اللغة الأجنبية كفراً! ودراسة الفلسفة والعرفان ذنباً وشركاً!… لا شك عندي أن الأمور لو سارت على هذا المنوال فإنّ وضع علماء الدين والحوزات كان سيؤول إلى حال الكنائس في القرون الوسطى» (صحيفة إمام 21: 278 ـ 279).
وبالفعل، فهذه مشكلة حقيقية؛ إذ تجد المفاهيم مقلوبةً أحياناً؛ فكلّما انزوى عالم الدين وظهرت عليه آثار عدم العلم بالحياة وبالمشاهد الثقافية والاجتماعية والسياسية، كان أكثر قداسةً، وكلّما تصدّى للفعل السياسي والثقافي والاجتماعي.. كان محلّ شكٍ وتساؤل، حتى أنّ الأوّل وهو لم يُقدم على فعل شيء يذكر ـ أحياناً ـ للإسلام والمسلمين يحقّ له أن يقيّم دين وإيمان وعلم الثاني الذي ربما صنع أجيالاً من المتدينين، بل وعلماء الدين أنفسهم، فالموضوع ليس موضوع نوايا أو أخلاقيات، فلا يجدر التجنّي على أحد، إنّما موضوع ثقافة، وطريقة تفكير، ورؤية خاصة.
5 ـ وفي سياق إصلاح الفقيه والحوزات، يرى أنّ التفكير الذي يسود بعض الأوساط العلمية في الحوزات الدينية إزاء طبيعة اهتمامات عالم الدين هو تفكير خاطئ بل قاتل، إذ مازال بعضهم يتصوّر أنّ عرض العضلات العلمية وشحذ الذهن في مطالب لا نفع منها أو تندر الفائدة فيها هو معيار قوّة الاجتهاد وبراعة الاستنباط، وهذا ما يركّزه بعضهم دوماً ـ مع الأسف الشديد ـ في أذهان طلاب العلوم الدينية، حتى أنّك لتجد تبارياً في هذا الموضوع، وكلّما غدوت عُرْفياً في فهمك للكتاب والسنّة زادت التهمة بالسطحية ضدّك، خلطاً بين الأوراق، وتغافلاً عن بعض الأمور.
يقول الإمام الخميني ـ معلّقاً على تركه الخوض في مباحث دليل الانسداد ـ : «والمرجوّ من طلاب العلم وعلماء الأصول ـ أيّدهم الله ـ أن يضنّوا على أوقاتهم وأعمارهم الشريفة، ويتركوا ما لا فائدة فقهيّة فيه من المباحث، ويصرفوا همّهم العالي في المباحث المفيدة الناتجة، ولا يتوهّم متوهّم أنّ في تلك المباحث فوائد علميّة، فإن ذلك فاسد؛ ضرورة أنّ علم الأصول علمٌ آليّ لاستنتاج الفقه، فإذا لم يترتّب عليه هذه النتيجة فأيّة فائدة علميّة فيه؟! والعلم ما يكشف لك حقيقةً من الحقائق ـ دينيةً أو دنياوية ـ وإلا فالاشتغال به اشتغالٌ بما لا يعني..» (أنوار الهداية 1: 317).
ويقول : «إنّ كثرة اشتغال بعض طلبة الأصول والنظر إليه استقلالاً، وتوهّم أنّه علم برأسه، وتحصيلَه كمال النفس، وصرفَ العمر في المباحث الغير المحتاج إليها في الفقه لهذا التوهّم، في طرف التفريط، والعذر بأنّ الاشتغال بتلك المباحث يوجب تشحيذ الذهن والأنس بدقائق الفنّ، غير وجيه» (الاجتهاد والتقليد: 11 ـ 12).
فالمطلوب إذاً، بناء صورة أنموذجية أخرى في ذهن طلاب الحوزات العلمية؛ كي يقتدوا بها، ويحدّدوا ـ على وفقها ـ الفقيه المنشود من غيره، فالخطأ في تحديد الهدف يوقع في كوارث، فإذا كنّا اليوم نؤمن بالمشروع الإسلامي الكبير الذي قدّمه الإمام الخميني فعلينا أن نخدم هذا المشروع، فكم هي حاجات الفقه المعاصر اليوم وضرورات الدولة الإسلامية، ولوازم الحركة الإسلامية عموماً، حتى نستجيب لها، بدل الانشغال وشغل طلاب العلوم الدينية بموضوعات لا تحتاجها الثورة، ولا الدولة، ولا الحركة، ولا النهضة, ولا المشروع، إلاّ نادراً، لا أقلّ من ضرورة إعادة رسم الأولويات في هذا الموضوع.
6 ـ وفي الختام، يوجّه الكلام لأنصار خطّ الإمام الخميني أن لا ينسوا هذه المفاهيم، ولا يعيدوا أولئك الذين لطالما سعى الإمام الخميني لمواجهتهم بالكلمة والفكر والموقف والأخلاق، فينحروا بذلك ـ ومن داخل المؤسّسة الدينية نفسها ـ مشروعَ الإمام الخميني، وعليهم أن يعوا جيداً خطورة هذه الملفات، وصعوبة هذه المواقف، وأن يدركوا أنّ مثل هذه الأخطاء ستكلّف غالياً في المستقبل، فالموضوع ليس ـ والعياذ بالله ـ موضوع حرب أو مواجهة غير أخلاقية، بل نحن ننشد المرجع الأنموذجي، والفقيه القدوة، والمفكرّ الأمثل، والحوزة النابضة، دون أن يعني ذلك ـ وهذا أمر حساس وهامّ ـ أي تجريح أو إهانة أو تسقيط لأيّ رمز أو تيار آخر؛ فتعدّد الرأي مفخرةٌ للحوزات العلمية، وسيظلّ كذلك إن شاء الله سبحانه، إنّما المسألة مسألة وظيفةٍ فيما نفعله، فعلى كلٍّ منّا أن يقوم بما يراه حجّةً بينه وبين ربّه جلّ ذكره، وهذا ما يجعل إيماننا بأفكارنا رهيناً بالانسجام معها عملياً؛ لنخرج من هذه الازدواجية، ومن الله نستمدّ العون، وهو خير ناصرٍ ومعين.
(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ الله…) (آل عمران: 173 ـ 174).