- وقفات مع دعاء عرفة ـ الشيخ محسن الأراكي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
قبل أن نتناول هذا الدعاء بالبحث، نود أن نشير إلى بعض النقاط المرتبطة بمشروع الدعاء بشكل عام.
الدعاء بذاته عبادة لله سبحانه وتعالى، يستحقها هو ولا يستحقها أحد غيره. والدعاء بهذا الاعتبار له حسن ذاتي وعقلي، بالإضافة إلى حسنه الشرعي، بمعنى أن الدعاء في ذاته وطبيعته يعتبر تذللاً وخضوعاً لله سبحانه. وهذه إحدى الجهات التي تجعل الدعاء عملاً ممدوحاً حسناً في ذاته.
ومن جهة أخرى، إن الدعاء بالإضافة إلى كونه حَسناً في ذاته، فإنه حَسن في غايته، لأنه ابتهال بين يدي الله سبحانه، متقوِّم بإظهار الحاجة والذل بين يديه، والعبد كله فقر وحاجة لله، والله وحده هو الغني. وكل خطوة يخطوها الإنسان في حياته الدنيا أو العقبى، لا يمكنه أن يستغني فيها عن الله تعالى وتوفيقه وهدايته وتسديده، فهو فقير لله في كل ما يعمل وما يرجو ويبتغي. ومن هنا فإنه محتاج إلى الدعاء لأنه محتاج إلى الله سبحانه.
هذه هي الجهة الثانية التي تجعل من الدعاء مشروعاً مهماً وأساسياً في حياة الإنسان.
وهنالك جهة ثالثة في الدعاء، وهي أنه باب خاص من الرحمة الإلهية، فتحه الله لعباده، لأن لله أنواعاً من الرحمة، قسمناها في أبحاثنا التفسيرية إلى خمسة أنواع:
1ـ الرحمة الابتدائية: وهي التي يبتدئ الله بها خلقه، كنعمة الوجود والسمع والبصر والقوة والقدرة، وما إلى ذلك من النعم التي بها قوام وجودنا وبقائنا ونموّنا.
فنعمة الوجود بحدوثه وبقائه ونموه هي نعمة تنزل علينا انطلاقاً من الرحمة الإلهية المبتدَأة، وهي الرحمة التي لا تستثني مخلوقاً على الإطلاق.
2ـ الرحمة الغائية: وهي التي تنتهي إليها غاية المخلوقين، ويطلبها حتى المقربون إليه، ويتمناها المخلصون والصالحون والأنبياء والمرسلون، يقول تعالى على لسان موسى (ع ): ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾([1]).
فهذه الرحمة هي النقطة التي ينتهي إليها نظر الإنسان وغايته في سلوكه إلى الله، وهي التي تلازم الرضا والحب والنظر إلى الله. ويعيش معها الإنسان في كنف الجوار الإلهي، ولها شأن خاص ليس هنا مجال التفصيل فيه.
3ـ الرحمة المكتوبة: وهي التي ذكرها الله تعالى بقوله: ﴿وَإِذَا جَاءكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾([2]). فهذا باب خاص، ورحمة خاصة، تختلف في نوعها وآثارها وأسبابها عن النوعين السابقين. وهي تعني فتح باب التوبة للمذنبين.
ورد في دعاء الإمام السجاد (ع) في وداع شهر رمضان: أَنْتَ الَذِي فَتَحْتَ لِعِبَادِكَ بَاباً إِلَى عَفْوِكَ، وَسَمَّيْتَهُ التَّوْبَةَ، وَجَعَلْتَ عَلَى ذَلِكَ الْبَابِ دَلِيلاً مِنْ وَحْيِكَ لِئَلا يَضِلُّوا عَنْهُ، فَقُلْتَ تَبَارَكَ اسْمُكَ: ﴿تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَةً نَصُوحاً…﴾([3]).
4ـ رحمة الجزاء: وهي أن الله تعالى يثيب المحسنين على أعمالهم وإن كانوا غير مؤمنين، إما في الدنيا وحدها، أو في الدنيا والآخرة معاً. قال تعالى: ﴿هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ ﴾([4]). فهذا قانون إلهي تنبع منه رحمة الجزاء.
5ـ رحمة الإجابة: وهي موضوع حديثنا هذا، وهي رحمة لا تختص بالمؤمنين أو الصالحين، إنما تشمل حتى العتاة والمردة والطواغيت. ومن هنا تعرف أهمية الدعاء في نظام المفاهيم الإسلامية والقرآنية، فإن الله تعالى جعل الدعاء سبباً للإجابة بالرغم من كل ما يلف الداعي من ظروف وملابسات قد تحول بينه وبين القرب من الله تعالى. فقد لا يكون الداعي محبوباً عند الله، لكن دعاءه يستجاب ويُسمع، بسبب أهمية الدعاء.
وأهم الأنواع في ما سبق، الرحمة الغائية، والرحمة المكتوبة، وأهمهما الرحمة الغائية، وهي التي تقترن بالرضا الإلهي والحب، وتأخذ بيد الإنسان من الحضيض إلى ما لا يُعرف له حد، فلا يبلغ العبد منها درجة إلا نال بتلك الدرجة رحمة جديدة، وفضلاً، وهكذا تَستنـزل كلُّ رحمة رحمةً أخرى وفضلاً، قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾([5]). فالرحمة يعقبها رحمة وفضل، فإذا بلغ العبد بالفضل الإلهي رحمة جديدة أضيف له فضل آخر، وهكذا دواليك، فلا أمد ولا نهاية لهذه الرحمة.
ولا يعلم إلا الله تعالى، ما يناله المقربون الذين تشملهم هذه الرحمة الخاصة من اللذائذ المعنوية، والبهجة التي لا توصف.
فالدعاء إذاً باب خاص من أبواب الرحمة الإلهية فتحه الله على مصراعيه لعباده، ولذلك ورد في الحديث عن أبي عبد الله (ع): إنّ العبدَ الولي لله يدعو الله عز وجلّ فِي الأمر ينوبه فيقول للملكِ الموكَّلِ به: اقضِ لعبدي حاجتَه، ولا تُعجِّلْها، فإنِّي أشتهي أن أسمعَ نداءَه وصَوتَهُ. وإِنَّ العبدَ العدوَّ للهِ لَيدعُو اللهَ عَزّ وجلَّ فِي الأَمرِ ينوبُهُ فيُقَالُ لِلمَلَكِ الموَكَّلِ به: اقضِ لعبدي حاجَتَه وعجِّلْها فإنِّي أكرهُ أن أسمعَ نداءهُ وصوتَهُ([6]).
هذا يعني أن هناك فصلاً بين مقولة الحب والرضا، ومقولة استجابة الدعاء. فإن الدعاء يستجاب حتى لمن لا يحبه الله تعالى. وإن كان الدعاء في ذاته سبباً للتقرب من الله عز وجل، إذا توفرت شروطه الأخرى التي تستنـزل الرحمة الإلهية.
فالدعاء باب خاص من أبواب الرحمة الإلهية، تنفتح منه أبواب أخرى من أبواب الرحمة، إذا فتح العبد قلبه للأنواع الأخرى من الرحمة، وجعل الدعاء نقطة الانطلاق لهذه المسيرة التي لا تنتهي.
وهناك نقطة مهمة أيضاً لا بد أن نشير إليها، وهي أن الدعاء له أدب خاص لا يُتقنه إلا أهلُه، وليس أدب الدعاء مقولة يحسنها كل أحد، بل إن أدب الدعاء في الأساس ينبع من الوحي لا غير.
هنالك كلمة سمعناها من الإمام الخميني (رض) ينقلها عن أستاذه الشيخ الشاه آبادي، يقول فيها: إن القرآن هو كلام الله النازل، والدعاء كلام الله الصاعد. ومعنى ذلك أن المصدر الذي ينبع منه الدعاء بشروطه وأدبه لا يمكن أن يكون إلا مصدراً إلهياً.
وعند مقارنة الأدعية الواردة عن أهل البيت (ع) بالأدعية الواردة عن غيرهم، تجد الفرق واضحاً، والسر في ذلك أن مصدر أدعيتهم (ع) هو الوحي، بخلاف الحال عند غيرهم.
لاحظ مثلاً الدعاء المشهور الذي يوزع مطبوعاً في مكة والمدينة أيام الحج، وما فيه من عبارات قاصرة، كقولهم: اللهم إني أعوذ بك من كذا وكذا… ومن أن أُغتال من تحتي!
وتعال بعد ذلك إلى الأدب الرفيع في دعاء أمير المؤمنين الذي رواه كميل بن زياد، والأدعية الأخرى التي زخرت بها كتب الأدعية عن أئمتنا (ع)، والتي رواها الكفعمي، والشيخ الطوسي في مصباح المتهجد، والعلامة المجلسي في البحار، وغير هؤلاء، ومنها أدعية مطولة، فيها من خزائن المعارف الإلهية ما لا يعد ولا يحصى.
فالإنسان وإن كان مأذوناً له أن يطلب من الله ما يشاء، وأن يدعو بما يشاء، قال تعالى: ﴿ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾([7])، لكن الدعاء المطلق شيء، والدعاء بأدبه وشروطه شيء آخر، ولا بد أن ينبع من مصدر ومهبط الوحي، وهم رسول الله (ص) وأهل بيته (ع) الذين ارتووا من معينه وصدروا عن علمه.
وكنموذج من تلك الأدعية الصادرة عن منبع الوحي، دعاء عرفة، للإمام الحسين (ع). فعند تحليلنا لهذا الدعاء نجد أنه يشتمل على سبعة أقسام رئيسة، هي: الحمد، والثناء، والشكر، والإقرار بالنعم، والإقرار بالذنب والتقصير بين يدي الله سبحانه، والتضرع إلى الله، وطلب الحاجة. وهذا يمثل أدب الدعاء بشكل عام، لكل من أراد الوقوف بين يدي الله تعالى. ولا يمكن أن يتأتى ذلك إلا لمن كان مصدراً للوحي الإلهي.
فالثناء على الله مثلاً مقولة لا يحسنها إلا الله تعالى، وكذلك الحمد المشتمل على الثناء الإلهي، فلا يمكن أن يأتي الحمد بما يستحقه من مضمون إلا عندما يصدر من مصدر الوحي ذاته. وهذا هو الفرق بين الثناء على الله في كلام أهل البيت (ع) وكلام غيرهم. فليس الثناء على الله عملاً بسيطاً، وهناك الكثير ممن وصف الله تعالى وأثنى عليه، لكن أين ذلك مما نجده من ثناء في كلام أهل البيت (ع)كما روي عن أمير المؤمنين (ع) من قوله: الحمد لله الذي لا يَبلغ مِدْحتَه القائلون، ولا يُحصي نَعْماءَه العادُّون، ولا يؤدّي حقَّه المجتهدون([8]). أو ما روي عن فاطمة الزهراء (ع) من قولها: الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدّم، من عموم نعم ابتداها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام مِنن والاها، جمّ عن الإحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها… ([9]).
هذا هو الثناء الإلهي الذي نجده في أدب الحسين (ع) وأئمة أهل البيت (ع) في الصحيفة السجادية ونهج البلاغة والحديث المروي عن النبي (ص) وأهل بيته (ع).
هذا الثناء الإلهي الذي يشتمل عليه كلام أهل البيت (ع) يختلف عن ذلك الذي تجده في كلام غيرهم اختلافاً ماهَوياً، وعند مقارنة الأمرين تلمس أن هناك نوعين من الثناء، أحدهما ينبع وينزل من السماء، والآخر من التراب.
يقول الإمام الحسين ع في دعاء عرفة:
الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع ولا لعطائه مانع ولا كصنعه صنع صانع وهو الجواد الواسع فطر أجناس البدائع وأتقن بحكمته الصنائع ولا تخفى عليه الطلائع ولا تضيع عنده الودائع…([10]).
وعند دراستنا لمقاطع الدعاء الشريف نجد أنه يشتمل على ما يلي:
1 ـ حمد الله، ثم تسبيحه وتنزيهه، وهو قوله (ع): الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع، ولا لعطائه مانع، ولا كصنعه صنع صانع، وهو الجواد الواسع، فطر أجناس البدائع، وأتقن بحكمته الصنائع، لا تخفى عليه الطلائع، ولا تضيع عنده الودائع، جازي كل صانع، ورائش كل قانع، وراحم كل ضارع، منَزِّل المنافع، والكتاب الجامع، بالنور الساطع، وهو للدعوات سامع، وللكربات دافع، وللدرجات رافع، وللجبابرة قامع، فلا إله غيره، ولا شيء يعدله، وليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، اللطيف الخبير ، وهو على كل شيء قدير.
فقد أعقب الحمد بالتسبيح، وهو قوله (فلا إله غيره، ولا شيء يعدله، وليس كمثله شيء … إلخ) وهكذا الحال في نظام الحمد الذي نتعلمه من أهل البيت (ع) حيث يعقب كلَّ حمد تنزيهٌ لله تعالى وتسبيح له.
2 ـ الشهادة لله بالربوبية والإقرار له بالنعم، وهو قوله (ع): اللهم إني أرغب إليك وأشهد بالربوبية لك، مقر بأنك ربي، وإليك مردي، ابتدأتني بنعمتك قبل أن أكون شيئاً مذكوراً، خلقتني من التراب ثم أسكنتني الأصلاب، آمناً لريب المنون، واختلاف الدهور والسنين، فلم أزل ظاعناً من صلب إلى رحم، في تقادم من الأيام الماضية، والقرون الخالية، لم تخرجني لرأفتك بي ولطفك لي وإحسانك إلي، في دولة أئمة الكفر، الذين نقضوا عهدك وكذبوا رسلك، لكنك أخرجتني للذي سبق لي من الهدى الذي له يسرتني، وفيه أنشأتني، ومن قبل ذلك رأفت بي بجميل صنعك، وسوابغ نعمك، فابتدعت خلقي من مَنِيٍّ يُمنى، وأسكنتني في ظلمات ثلاث، من بين لحم ودم وجلد، لم تشهدني خلقي، ولم تجعل لي شيئاً من أمري…إلخ .
هذه هي الشهادة لله بالربوبية، وهي تعني الإقرار له بالنعم، فمضمون الربوبية أن الله تعالى ولي النعم، وهناك ربط عضوي مفهومي بين الربوبية والنعمة، لأن الرب هو المنعم، ومضمون الربوبية هو الإنعام، فالرب تعالى هو الذي أنعم علينا بمختلف النعم. لذا نرى أن هذا المقطع من الدعاء يذكر بعد الشهادة بالربوبية الإقرار التفصيلي بالنعم: ابتدأتني بنعمتك قبل أن أكون شيئاً مذكوراً…إلخ.
وهكذا يستمر (ع) بذكر النعم حتى يصل إلى إتمام النعمة، فلم تبق نعمة يمكن تصورها في عالم الوجود إلا وأسبغها الله تعالى علينا، يقول (ع): ثم إذ خلقتني من خير الثرى، لم ترض لي يا إلهي نعمة دون أخرى، ورزقتني من أنواع المعاش وصنوف الرياش بمنك العظيم الأعظم علي، وإحسانك القديم إلي، حتى إذا أتممت عليّ جميع النعم وصرفت عني كل النقم، لم يمنعك جهلي وجرأتي عليك أن دللتني إلى ما يقربني إليك…إلخ.
ولا بد هنا من ملاحظة أمر مهم، وهو الإشارة إلى أن النعم الإلهية لا تتم إلا بنعمة الهداية، وليس المعني بها هنا الهداية الدلالية فحسب، إنما الهداية الإيصالية أيضاً، فلا تتم النعمة على عبد إلا إذا اهتدى بهداية خاصة، يوصله الله تعالى بها إلى درجة القربى منه. يقول تعالى مثلاً: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾([11]). حيث أكمل الله تعالى النعمة بإكمال الهداية، وذلك هو نصب علي (ع) للإمامة. فعندما اكتملت شروط الهداية كلها تمت النعمة. وهذا هو إتمام النعمة على الأمة، أما إتمامها على الفرد فهو أن يهديه الله تعالى إلى مرتبة الإسلام الكامل، والإخلاص والتسليم له سبحانه وتعالى، كما هو الحال في قصة نبينا إبراهيم (ع). يقول تعالى في قصة إبراهيم (ع) : ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾([12]). فهذا هو التسليم المطلق، ونعمة الهداية التي أنعم الله بها على إبراهيم. لذا أخبر الله تعالى في موضع آخر أنه أتم النعمة عليه وعلى إسحاق. يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾([13]) وإتمام النعمة هنا يعني هدايتهما إلى الرضا الإلهي، والدرجة التي بلغا بها حالة الإسلام لله سبحانه، وهو الخضوع التام لله، يقول عز وجل: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ~ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾([14]). ويقول أيضاً: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ~ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾([15]) وقد استجيب هذا الدعاء عندما رضي الله حضورهما وإخلاصهما له في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ …﴾([16]).
هذان نموذجان من إتمام النعمة على العبد، وإتمامها على الأمة بأن يجعل عليها إماماً تطيعه، لأن للأمة شخصية كما أن للفرد شخصية، وإسلام الأمة بخضوعها للإمام المأذون له بالقيادة من الله سبحانه وتعالى، كما أن إسلام الفرد بخضوعه لله عز وجل.
فالإمام الحسين (ع) يذكر في هذا الدعاء أن إتمام النعمة يكون بالهداية، يقول (ع): لم يمنعك جهلي وجرأتي عليك أن دللتني إلى ما يقربني إليك، ووفقتني لما يزلفني لديك، فإن دعوتُك أجبتني، وإن سألتك أعطيتني، وإن أطعتك شكرتني، وإن شكرتك زدتني، كل ذلك إكمال لأنعمك علي، وإحسانك إلي…الخ.
3 ـ وبعد هذا العرض التفصيلي لأنعم الله يأتي دور الشكر لله تعالى، يقول (ع): فسبحانك سبحانك من مبدئ معيد، حميد مجيد، تقدست أسماؤك، وعظمت آلاؤك، فأي نعمك يا إلهي أحصي عدداً وذكراً، أم أي عطاياك أقوم بها شكراً، وهي يا رب أكثر من أن يحصيها العادّون، أو يبلغ علماً بها الحافظون، ثم ما صرفت ودرأت عني اللهم من الضر والضراء أكثر مما ظهر لي من العافية والسراء، فأنا أشهد يا إلهي بحقيقة إيماني وعقد عزمات يقيني … وهكذا إلى قوله (ع): وما انتسج على ذلك أيام رضاعي، وما أقلّت الأرضُ مني، ونومي ويقظتي وسكوني، وحركات ركوعي وسجودي، أن لو حاولت واجتهدت مدى الأعصار والأحقاب ـ لو عمرتها ـ أن أؤدي شكر واحدة من أنعمك ما استطعت ذلك إلا بمنك الموجب علي به شكرك أبداً جديداً، وثناء طارفاً عتيداً…
وهكذا حتى ينتهي هذا المقطع من الدعاء بالتسبيح أيضاً، وذلك قوله (ع): فسبحانه سبحانه، لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا و تفطرتا، سبحان الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
فكان بعد الحمد تسبيح، ثم بعد التسبيح حمد أخير، وهذا أدب قرآني في الدعاء، كما نص على ذلك كتاب الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ~ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾([17]) وقوله: ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ~ وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ~ وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾([18]). فهناك حمدٌ أول وحمد آخر، وبينهما تسبيح لله سبحانه وتعالى. وهكذا هو نظام الحمد والتسبيح حسب الأدب القرآني. وهكذا أيضاً بدأ سيد الشهداء (ع) دعاء عرفة بالحمد ثم التسبيح ثم الحمد الأخير حيث قال (ع): الحمد لله حمداً يعادل حمد ملائكته المقربين، وأنبيائه المرسلين، وصلى الله على خيرته محمد خاتم النبيين، وآله الطيبين الطاهرين المخلصين وسلم.
هذا هو القسم الأول من الدعاء.
4 ـ ثم يبدأ (ع) بالقسم الثاني، وهو ذكر الحاجة، ويبدؤها بقوله: اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك، فيجعل ذلك أول حاجة بين يدي الله تعالى. ويسترسل بعرض الحاجات بين يدي الله تعالى، مع ملاحظة أنه (ع) يعرض مجموعة من الحاجات، ثم يعود إلى حمد الله تعالى وتسبيحه، ثم يعرض حاجاته مرة أخرى، وهكذا إلى نهاية الدعاء.
كان هذا عرضاً سريعاً لدعاء عرفة بتشكيلة أدب الدعاء، ولم نقتحم أبواب المعاني التي يتضمنها، فإن هذا بحر خضم، يحتاج الخوض فيه إلى وقت كاف.
نسأله تعالى أن يلهمنا هدايته، وأن يوفقنا لاتباع أمره ونهيه، واتباع أوليائه المقربين، محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.
مداخلات :
س: قد يذهب البعض إلى أن الإنسان لا يمكن له أن ينشئ دعاء خاصاً، إنما يجب عليه أن يرجع إلى المأثور من الدعاء، باعتبار أن الدعاء المأثور يراعي آداب الدعاء. فهل هذا مخالف لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾([19]).
إن الدعاء في ذاته ـ كما ذكرنا ـ هو عبادة وتذلل بين يدي الله تعالى، وله حسن ذاتي، فهو مطلوب بشكل عام، ولكن هنالك نقطتان لا بد من الالتفات إليهما:
الأولى: أن نختار الأدعية المأثورة في مواردها، فإذا أردنا أن ندعو في زمان أو مكان ما، ينبغي أولاً أن لا يفوتنا الدعاء المأثور في ذلك الزمان أو المكان، مع مشروعية أن يدعو الإنسان بما يشاء، ولا مانع من ذلك، كما هو متعارف عندنا بعد كل دعاء مأثور، حيث نقوم بعرض حاجاتنا وندعو بما شئنا، وهذه سنة حسنة. فينبغي إذاً أن لا تفوتنا الآثار والفوائد المعنوية للدعاء المأثور، وعدم استثمار الدعاء المأثور هو تفويت لفرصة ذهبية، لا ينبغي للمؤمن تفويتها.
الثانية: أن لا نتصرف في الدعاء المأثور، فليس من الصحيح أن نضيف إليه أو نحذف منه كما نشتهي.
فإن راعينا هاتين النقطتين، ساغ لنا أن ندعو بما نشاء، شرط أن يكون ذلك ضمن إطار العموميات التي أمرنا أن نلتزم بها في الحديث مع الله تعالى.
س: ما معنى الإقرار بالذنب من المعصوم (ع)؟ وهل أن كون مصدر الدعاء هو الوحي وأن للدعاء أدباً خاصاً يفسر لنا ذلك؟
إن الإقرار بالذنب ـ بلا شك ـ هو نوع من التذلل بين يدي الله تعالى، ولكن النقطة المهمة التي ينبغي أن نلتفت إليها هي أن المعرفة بالله تعالى كلما ازدادت، فَنِيَ وتلاشى بين يدي الله تعالى كل عمل صالح يعمله الإنسان، مهما كان رفيعاً. فمن لا يملك معرفة رفيعة وعميقة بالله تعالى يرى القليل من الطاعة كثيراً، ويعتقد أنه أدى ما عليه. أما من عرف حق الله عليه، وعرف مدى عظمته ـ وإن كان الإنسان عاجزاً عن بلوغ ذلك المدى بشكل كامل ـ فإنه يرى أن أعماله، مهما كانت كثيرة ورفيعة، لا تساوي شيئاً. فمن يتصور اللانهاية تتحول الملايين عنده إلى أصفار. وهكذا من يفهم اللانهاية الإلهية يرى أنه مقصر بين يدي الله تعالى.
نقل إليّ أحد العلماء قائلاً: طرأت عليّ حالة، وأنا أهم بدخول الحرم الشريف لأمير المؤمنين، أيقنت فيها أنه ليس في عالم المخلوقات من هو أشد تقصيراً بين يدي الله سبحانه وتعالى مني، فانكسر قلبي.
هكذا يكون المؤمنون الذين شعروا بحقيقة الإيمان، ووجدوا طعمه في نفوسهم.
فأمير المؤمنين (ع) عندما يقر بالذنب بين يدي الله تعالى، يكون جاداً صادقاً في ذلك، وليس هذا من الإقرار المجازي أو التعليمي الصرف كما يقال.
فمن يعرف الله سبحانه، ويعرف المدى الذي تبلغه عظمته بالقدر الذي يمكن أن يتصوره، يشعر بالذنب والتقصير الحقيقي بين يدي الله تعالى.
لاحظ مثلاً أن المشي على الأرض ليس ذنباً في القانون العرفي العام، لكن من عرف الله حق معرفته، قد يعده ذنباً، فهو يرى أنه يمشي في موضع وهو غافل عن الله عز وجل. كمن يرى حبيبه يمر من أمامه ولا يهتم به، فهذا وإن لم يعد في العرف ذنباً، لكن في عرف الحب ذنب.
فاعتراف أئمتنا (ع) بالذنب، هو اعتراف بذنب حقيقي، لكنه ليس ذنباً في القانون، إنما هو ذنب في عالم وعرف الحب، لأن هناك علاقة حب تربطهم مع الله تعالى، منشؤها المعرفة به، فكلما ازدادت المعرفة ازداد الحب.
إذاً في قانون الحب تختلف المقاييس، والذنوب التي يقر بها أئمتنا هي ذنوب حسب مقاييس الحب، وليست حسب مقاييس القانون.
س: يقول البعض: اطلبوا حاجاتكم من الله مهما كانت بسيطة، حتى لو كان ذلك ملح الطعام وأمثاله، فهل ورد عن أئمة أهل البيت (ع) أنهم كانوا يطلبون أمثال ذلك من الله تعالى؟
هنالك روايات في طلب كل شيء من الله، حتى عَلَف شاتك، وملح عجينك([20]). والحكمة والمغزى في ذلك أن العبد المؤمن المحب لله تعالى لا بد أن يبحث عن أدنى حجة يتكلم بها مع الله تعالى، ويتذلل بها بين يديه، وأحسن حجة يتمسك ويتذرع بها هي الحاجة، مهما كانت. فالحاجة هي شعار الذل وعلامته، وإن كانت علف شاة أو ملح طعام أو شسع نعل، فليس حجم الحاجة هو المهم، إنما المهم هو عرضها بين يدي الله.
نعم، للذين رقَّت قلوبهم وكُشفت لهم الحجب حاجات أخرى تحول بينهم وبين عرض كثير من الحاجات البسيطة، ويشغلهم هول المفزع والمعاد وما بعد الموت عن الاهتمام بمثل هذه الحاجات.
فلا بأس أن يتعود الإنسان عرض حاجاته بين يدي الله تعالى، لتكون سبباً وذريعة في الحديث معه.