كانت ولادتي بالعراق وفي بغداد تحديداً، وقد رضعت الإيمان بالمسيح (ع) والكنيسة منذ خروجي إلى هذا العالم الواسع الفسيح، ونشأت وترعرعت في أحضان هذا الإيمان، وقد عشقت المسيح (ع) في صميم القلب، وعشقت كل ما يرتبط به من قريب أو بعيد، ولأنه ابن الله القدوس ، حسب اعتقادي في ذلك الوقت، فقد تقدّس كل شيء ينتمي إليه؛ ولذلك كُنتُ أنظر بقدسية إلى الكنيسة والى آباء الكنيسة، والذي ساعد في تقوية هذا الإيمان في نفسي, هو أني كنت أعيش في عائلة متدينة جداً، فوالدي كان من خدمة الكنيسة، وأخي الأصغر کان في بعثة إلى (الدير)[1] لدراسة تعاليم الدين المسيحي ويصبح قسيساً بعد ذلك.
وهذا التدين والتمسّك القوي بديني كان يؤدي وبشكل طبيعي إلى الاعتقاد بأنّ كل الأديان الأخرى هي أديان باطلة، ومصير أتباعها لابد أن يكون إلى الخسارة الأبدية، وهذا ما كنت أعتقده في الإسلام والمسلمين خصوصاً.
وبعدما أصبحت شاباً يافعاً كان لديَّ الكثير من الأصدقاء المسلمين، ولكن لم تكن تحدث بيننا نقاشات حول الدين بصورة عامة، إلى أن وفقني الله بالمجيء إلى الجمهورية الإسلامية مع ثلّة من الإخوة العراقيين بينهم مسيحيين ومسلمين، وأتيحت لي الفرصة للتعرّف على بعض المسلمين المثقفين، وخلال الأيام الأولى كانت تدور بعض النقاشات بيننا نحن المسيحيون وبين هؤلاء الإخوة, حول المسيحية وعقائدها وأصولها، ولكوني أكثر إطلاعاً من بقية أصدقائي على المسيحية, كنت أتصدّى غالباً إلى الإجابة عن الإشكالات التي كانت تُطرح من قِبَل المسلمين، وكُنتُ في كثير من الأحيان أشعر بأنّ إجابتي غير مقنعة لي شخصياً، ولكن مع ذلك كنت أسعى جاهداً على توضيح أنّ المسيحية بكل عقائدها وأصولها هي الديانة الصحيحة والتي توجب السعادة الأخروية.
وشيئاً فشيئاً بدأت أطّلع على الإسلام وأفكاره وعقائده، ومن المسائل التي أحدثت في نفسي هزة عظيمة هي مطالعتي للقرآن الكريم؛ إذ إنها المرّة الأولى التي تمكنت فيها من مطالعة القرآن الكريم, وذلك عندما أصّر عليّ أحد الإخوة بمطالعته، وبدأت بقراءة سورة مريم(ع) التي أرشدني إليها صاحبي؛ لأنني كنت اعتقد سابقاً أنّ المسلمين يسيئون إلى المسيح وأمه العذراء مريم، وهذا ما تلقيته من الكنيسة والمجتمع الصغير الذي كنت أعيش فيه؛ ولذلك لم أكن أعلم أنّ هناك سورة كاملة في القرآن باسم العذراء مريم؛ ولذلك عندما شرعت في قراءة السورة لم أصدق أولاً أنّ هذا الكلام هو لقرآن المسلمين, الذي كُنتُ أسمع عنه الكثير من الافتراءات؛ ولذلك أحدث هذا الأمر عندي صدمة كبيرة، وبعد ذلك طالعت الآيات المتعلّقة بالمسيح(ع) في القرآن مما زادني حيرة ودهشة، فتغيّرت نظرتي عن القرآن كلياً, بخصوص ما كُنتُ أظنه من أن القرآن يسيء إلى المسيح وأمه.
وتوطّدت علاقتي مع هذا الصديق, بعدما تركني أكثر أصدقائي المسيحيين وسافروا إلى خارج إيران، وبدأت أشعر بميل شديد نحو الأفكار والمفاهيم الإسلامية التي كان صاحبي يوضحها لي، وكنت أخفي هذا الشعور في داخلي لئلا يطّلع عليه صاحبي فتكون هزيمة بالنسبة لي، واستمر الوضع هكذا لأيام وأسابيع, وأنا أطالع بكثرة عن الإسلام وأصوله وعقائده وأفكاره، حتى كانت تصل الحالة أحياناً إلى أنني كنت أقرأ أكثر من 14 ساعة يومياً، و بدء الميل شيئاً فشيئاً يتحوّل إلى قناعة واعتقاد بأنّ الإسلام هو الدين الحق والصحيح، ولكن هل يمكن أن أستسلم بهذه السهولة؟
وكانت هناك معركة حقيقية تقع داخل نفسي, بين جنود الرحمن والعقل وبين جنود الشيطان والنفس، فعقلي استسلم فعلاً للأدلة القوية التي أقامها المسلمون حول أحقية الدين الإسلامي، وروحي هي الأخرى بدأت تلتذ بالأفكار السامية للإسلام، وبالمقابل كان الشيطان وجنوده يوسوسون لي, بأنّ ما توصلت إليه الآن هل كان قد خفي عن آبائك وأجدادك وعلى علماء وآباء الكنيسة؟ وكيف ستواجه أهلك وأقاربك إذا علموا أنك قد تركت دين آبائهم واجدادهم واخترت الإسلام ديناً.
واستمرت هذه المعركة ثلاثة أيام لم أستطع خلالها النوم ولا الأكل والشرب، وفي إحدى الليالي تضرعت إلى الله القدير وطلبت منه من أعماقي أن يهديني ويرشدني إلى الحق والحقيقة, وأن يعيني على قبولها ومساعدتي في التغلّب على هذه الوساوس، وفي اليوم الثاني ـ ولله الحمد ـ شعرت في نفسي قوة وطمأنينة, جعلتني أتخذ أهم قرار في حياتي على الإطلاق, وهو اعتناق الدين الإسلامي؛ وذلك بعد أن عرضت الأمر على صديقي السابق وفرح بذلك كثيراً, وصليت أولى صلواتي وكانت فَريضَتي الظهر والعصر جماعة.
واستمرت مطالعتي حول الإسلام ودخلت إلى الحوزة العلمية في قم, ومازلت طالباً فيها إلى الآن، والحقيقة أن الشيء الذي جذبني نحو الإسلام هو أمران مهمان:
أولاً: العقلانية أو التعقّل.
فإن الإسلام دين العقل، ولا يمكن أن تُقبل عقيدة في الإسلام مخالفة لضرورة عقلية, وهذه ميزة أعتقد أنّ الإسلام ينفرد بها عن بقية الأديان الأخرى، خلافاً لما هو موجود في المسيحية، فإنّ الكثير من العقائد الأساسية في المسيحية مخالفة لصريح العقل, كمسألة التثليث وبنوّة المسيح لله, أو كونه الله متجسداً, وعقيدة الفداء والخطيئة الأصلية, وغيرها من العقائد التي تخالف صراحة الضرورة العقلية، نعم هناك أمر مهم أودّ أن أشير إليه وهو: إنّ رابطة العقل والدين ممكن أن تكون على أنواع وأقسام ثلاثة:
الأول: هو أن يكون الدين موافق تماماً للعقل في عقائده وأحكامه.
الثاني: أن تكون هناك بعض الأمور في الدين هي فوق العقل, وهذا أيضاً مقبول في جميع الأديان السماوية وغيرها.
الثالث: أن تكون في الدين أمور مخالفة للعقل, فهذا مرفوض.
ولذلك يمكن أن تكون هناك بعض الأحكام ـ لاسيما العبادية منها ـ فوق مستوى العقل البشري.
فلو سألنا العقل مثلاً، لماذا صلاة الصبح ركعتان والظهر أربع والمغرب ثلاث..الخ، هنا لا يمكن للعقل الإجابة عن ذلك، وبالرغم من عجز العقل من الإجابة إلا أنّ هذه الأحكام لا تخالف العقل بتاتاً بل هي فوق مستوى العقل، ولكن أن يكون هناك أمر مخالف للعقل فهذا غير مقبول أبداً، وللأسف فإنّ بعض العقائد المسيحية وكما أشرت إليها آنفاً مخالفة للعقل ولذلك رفضتها.
ثانياً: الشمولية:
الدين الإسلامي أيضاً يمتاز عن الأديان الأخرى بصفة الشمولية، حيث إنه يشتمل على العقائد والشريعة والأخلاق، ولكل قسم من هذه الأقسام عمق في المحتوى وإحاطة لجميع الجوانب، قلّ نظيرها في الأديان الأخرى، مثلاً في الجانب العقائدي في مسألة التوحيد، فإنّ الإسلام يحمل في إيمانه عن التوحيد أفكاراً سامية جداً وعميقة, بحيث لم نسمع عنها في الأديان الأخرى, وكذلك في خصوص الشريعة، فالذي يقف على أحكام الشريعة الإسلامية يجد أنها تشمل كل مناحي وجوانب الحياة البشرية، فهي مع الإنسان منذ ولادته, وحتى خروجه من هذه الدنيا، وشريعة بهذه الشمولية والسعة، لا نجدها في أي دين آخر، وأيضاً في الجانب المعنوي (السلوكي ـ الأخلاقي), الذي كان له تأثيراً خاصاً على اعتناقي للإسلام؛ لأننا نجد فيه معنوية وروحية لا توجد في الديانات الأخرى، حتى المسيحية التي يعتقد البعض بأنها دين الأخلاق والمحبة فهي لا تملك الشمولية في هذه المسائل ـ الروحية والأخلاقية ـ, ويكفي لبيان ذلك, الحديث الشريف عن النبي(ص): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
تبقى هنا مسألة أخيرة أودّ التأكيد عليها وهي, أنه أحياناً يتمّ تقييم دين ما على أساس سلوكيات أتباع ذلك الدين فقط، وهذا خطأ؛ لأنّ الدين يحمل في طياته نظرية متكاملة تكون برنامجاً نظرياً للسلوك العملي لأتباعه، ولكن أحياناً وللأسف نجد أنّ التطبيق لهذه النظرية يتم بصورة خاطئة، وهذا ما يقع المسلمون به أحياناً في ابتعادهم عن التعاليم الإسلامية الصحيحة، وعدم تطبيقهم للأحكام والتعاليم الإسلامية السمحاء والعظيمة، والأمر كذلك ينطبق على المسيحيين أيضاً بل وكل الأديان الأخرى، ولذلك كان البعض ـ أحياناً ـ يستدل على بطلان الإسلام من خلال سلوكيات المسلمين، وقد بينّت له أن النظرية شيء والتطبيق شيءُ آخر، وقد أشرت إلى بعض السلوكيات للمسيحيين ومخالفتها لتعاليم المسيح, وقلت له: هل تستطيع أن تقول، – وهو مسيحي- بأنّ المسيحية خطأ من أجل سلوكيات بعض المسيحيين؟
ولذلك أرى أن أذكّر نفسي وإخواني المسلمين بمسألة مهمة جداً وهي: أن تكون أعمالنا وأخلاقنا وسلوكياتنا مطابقة لما أراده الإسلام العزيز، لنكون ممثلين جيدين عن الإسلام العزيز.
علي الشيخ
1/رمضان/1426هـ
[1] مدرسة لتحصيل العلوم الدينية المسيحية وتزكية النفس يتخرج الطالب فيها بعد سنوات من الدراسة بعنوان قسيس وهي منتشرة في مدن العراق ولا سيما بغداد والمنطقة الشمالية.