أين دفنت فاطمة (عليها السلام)؟
من لقاء حواري مع سماحة الشيخ محمد مهدي اليوسفي الغروي في مرفأ الكلمة للحوار والتأصيل الإسلامي.
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أجد في الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) أي خبر عن قبر فاطمة (عليها السلام) سوى ما رواه المشايخ الثلاثة، في ثلاثة من الكتب الأربعة، بأسنادهم عن أحمد البزنطي (وهذا الخبر ـ وفق التقسيم العلمي الفني الدرائي، حسب السند ـ يسمى: صحيحة البزنطي) قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قبر فاطمة (عليها السلام) فقال (عليه السلام): «دفنت في بيتها، فلما زادت بنو أمية في المسجد صارت في المسجد»([1]).
ويلاحظ هنا أن السؤال كان في أيام الإمام الرضا (عليه السلام) وهي أول مرة يُكشف فيها بهذا المقدار عن قبر الصديقة الطاهرة (عليها السلام). أي بعد حوالي 190 سنة من وفاة الزهراء (عليها السلام)، بحسب الخبر الصحيح المذكور.
ونقل السيد ابن طاوس في الإقبال([2]) عن كتاب المسائل وأجوبتها من الأئمة (عليه السلام) في ما سئل عنه مولانا الإمام الهادي (عليه السلام) عن إبراهيم بن محمد الهمداني قال: كتبت إليه: إن رأيت أن تخبرني عن بيت (بَنِيّة) أمك فاطمة (عليها السلام) أهي في طيبة ([3]) أو كما يقول الناس: في البقيع، فكتب: هي مع جدي (صلى الله عليه وآله).
ويكشف سؤال السائل عن كون قبرها في البقيع، عن الشهرة المجالسية المتعارفة عندنا، من كونه هناك. فغالباً ما يقول الناس: إن قبرها في البقيع، وهي شهرة مجالسية غير علمية. فعندما نراجع المصادر نجد الفرق في هذا المورد بين المشهورات المجالسية عند العامة، وبين المصادر الخبرية والروائية العلمية.
وقول الإمام الهادي (عليه السلام): هي مع جدي، يرجح جانب (الروضة)، وهذا يؤيد ما ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) في ما سبق.
وقد روى صحيحة البزنطي أيضاً الشيخ الصدوق([4]) في «الفقيه» مرسلاً، كعادته في نقل الكثير من الأخبار، حيث ينقلها مرسلة، ثم يحيلها إلى المشيخة في آخر الكتاب. لكنه أسنده في «العيون»([5]). ومناسبة الخبر هنا معروفة، وهي أنه عن الإمام الرضا (عليه السلام). وكرر الإشارة إليه في «الفقيه»([6]) فقال: وهذا هو الصحيح عندي… وهو (أي موضع الروضة) من عند الإسطوانة التي تدخل إليها من باب جبرئيل (عليه السلام) إلى مؤخر الحظيرة التي فيها النبي (صلى الله عليه وآله).
وهذه التعليقة من الشيخ الصدوق، وإن لم تكن خبراً عن معصوم، لكنها تكشف عن السيرة العلمائية خلفاً عن سلف.
وهناك رسالة مفقودة باسم «مولد فاطمة ووفاتها» للشيخ الصدوق، وهي من جملة المصادر التي اعتمد عليها علي بن عيسى الإربلي في كتابه «كشف الغمة» حيث كانت لديه في القرن السابع، ونقل معظمها في كتابه المذكور. وقد قمتُ باستخراج هذه الرسالة من كتاب كشف الغمة، وألحقت بها بعض الأخبار التي كانت قبل ذلك عند الشيخ ابن شهرآشوب الحلبي السروي، في كتابه «مناقب آل أبي طالب». وهي الآن قيد الطباعة.
فالشيخ الصدوق نفسه، ذكر خبراً في تلك الرسالة، بأنهم دفنوها في البقيع (حسب ما هو معروف وشائع بين الناس)، ثم قال: والصحيح عندي أنها دفنت في بيتها.
وعليه فما رواه الشيخ الصدوق في «الخصال» بسنده عن علي (عليه السلام) وكذلك الكشي في «الرجال» بسنده عن الإمام الباقر (عليه السلام) في ذكر أبي ذر وسلمان والمقداد وعمار وحذيفة وابن مسعود، وأنهم شهدوا الصلاة على فاطمة (عليها السلام) إنما يحمله على حضورهم الصلاة عليها في بيتها بلا تشييع.
فقد حضر هؤلاء الصلاة، وهي صلاة الجنازة، وقد يعبر بها أحياناً عن التشييع، باعتبار أن عمدة التشييع عند المسلمين في الصدر الأول إنما هو اجتماعهم للصلاة على الجنازة، وليس السير بها من مكان إلى آخر.
إلا أنه لم يعلل بشيء على ما مر من خبره في «علل الشرائع» بسنده عن الصادق (عليه السلام) قال: «فلما فرغ من جهازها أخرج الجنازة، وأشعل النار في جريد النخل، فمشى مع الجنازة بالنار، حتى صلى عليها ودفنها»، مما ظاهره إخراجها والمشي بها إلى البقيع.
فهناك أخبار سابقة يتماشى ظاهرها مع ما هو مشهور بين الناس، من أنها دفنت في البقيع، فلا بد من حمل هذه الأخبار على محمل مناسب.
وقد روى الشيخ الطوسي في «التهذيب»([7]) صحيحة البزنطي عن الإمام الرضا (عليه السلام). وقال (كما ذكر ابن شهرآشوب في المناقب): الأصوب أنها مدفونة في دارها([8]). فالشيخ الطوسي لم يكتف بنقل الرواية فقط، كما فعل العلامة الكليني، إنما بين رأيه في المسألة في مكان آخر، على ما نقله عنه ابن شهرآشوب.
إلى هنا يتضح أن هناك شهرة علمائية، وهي أنها (عليها السلام) دفنت في بيتها، على ما رواه الكليني والصدوق والشيخ الطوسي والسيد ابن طاوس.
والطبري (الإمامي) اكتفى بما روى عن محمد بن همّام مرسلاً، قال: فغسلها أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخرجها إلى البقيع .. ودفنها بالروضة .. وأصبح البقيع وفيه أربعون قبراً جُدداً (كذا مضطرباً) وفيه في من حضرها قال: وصلى عليها ومعه الحسن والحسين، ولم يُعلم بها، ولا حضر وفاتها، ولا صلى عليها أحد من سائر الناس غيرهم([9]).
وكأنه هو ما جاء في «عيون المعجزات» للسيد المرتضى قال: روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أخرجها ومعه الحسن والحسين، ولم يُعلم بها أحداً، وصلوا عليها، ودفنها في البقيع، وجدد أربعين قبراً ([10])، مستبعداً منه اضطرابه بقوله: ودفنها بالروضة.
وروى الفتال النيسابوري مرسلاً في «روضة الواعظين» قال: أخرجها علي ومعه الحسن والحسين (عليه السلام) ونفر من بني هاشم (العباس وولداه) وعقيل والزبير، وخواصه سلمان والمقداد وأبو ذر وعمار وبريدة، وصلوا عليها ودفنوها، وسوّى قبرها مع الأرض، وسوى عليها سبعة قبور مزورة حتى لا يعرف قبرها([11]).
وجمع ابن شهرآشوب المازندراني الحلبي هذا الشتات فقال: وفي رواياتنا أنه صلى عليها أمير المؤمنين والحسن والحسين وعقيل وسلمان وأبو ذر والمقداد وعمار وبريدة. وفي رواية: والعباس وابنه الفضل. وفي رواية: وحذيفة وابن مسعود.
وروي أنه سوى قبرها مستوياً مع الأرض. وقالوا: سوى حواليها سبعة قبور مزورة حتى لا يعرف قبرها. وروي أنه رشّ أربعين قبراً، حتى لا يتبين قبرها ([12]).
و«كشف الغمة» للإربلي، أقدم كتاب احتوى أكبر قدر من كتاب «مولد فاطمة ووفاتها» للصدوق، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ونقل عنه خبراً مرسلاً قال: فغسلوها وكفنوها وحنطوها، وصلَّوا عليها، ودفنوها بالبقيع. وعلق الصدوق عليه قال: جاء هذا الخبر هكذا، والصحيح عندي أنها دفنت في بيتها، واستند في ذلك إلى صحيحة البزنطي عن الرضا (عليه السلام). ولكنه حيث لم يصرح بها هنا، وكأنه غاب عن الإربلي فعارضه، قال: المشهور في ما نقله أرباب التواريخ والسير والناس، أنها دفنت بالبقيع([13]). ثم لم يذكر من أرباب التواريخ والسير أحداً. ولو اطلع على الصحيحة (صحيحة البزنطي) لصححها ولم يعارضها.
ولا مانع من أن يكون دفنها في بيتها، ومع ذلك سوى قبوراً مزورة، عملاً بوصيتها، ولئلا يعلم قبرها الحقيقي ولا ينبش، فالتبس الأمر على عامة الناس.
هذا وقد مر الخبر([14]) أنه لما غسلها ووضعها على السرير قال للحسن: ادع لي أبا ذر، فدعاه فحملاه إلى المصلى فصلى عليها.
فالخبر وإن كان فيه بعد هذا: فحملوا السرير إلى البقيع، لكن نزولاً عند صحيحة البزنطي عن الرضا (عليه السلام)، يمكن القول بردّها إلى دارها.
فالنتيجة هي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) يمكن أن يكون قد قام بعملين للتغطية على القبر الحقيقي في الدار:
الأول: أنه أخرجها إلى المصلى فصلَّوا عليها، ولم يجعل الصلاة داخل البيت.
الثاني: أنه سوى صور القبور المزورة في البقيع.
وبصورة سريعة سرية رجع إلى البيت، فدفنها في بيتها.
والرجال الذين ذُكروا إنما حضروا الصلاة عليها، لا التشييع إلى البقيع.
وقد رأيت أن أتناول هذا الموضوع بالبحث، لأن الشهرة المجالسية أصبحت في الأعم الأغلب تتناول دفنها في البقيع، بحيث لا تكاد تسمع شيئاً عن هذا المشهور عند علماء الشيعة خلفاً عن سلف، اعتماداً على تلك الأخبار الواردة عن الإمام الرضا والإمام الهادي (عليه السلام)، التي تذكر أنها دفنت في دارها.
ومما يؤسف له أن الشهرة المجالسية لم تقتصر على عوام الناس، إنما تعدى الأمر إلى مجالس العلماء أيضاً، التي يفترض فيها أن تعتمد الطريقة العلمية المعتمدة على الأخبار المعتبرة الصحيحة، لا سيما صحيحة البزنطي عن الإمام الرضا (عليه السلام) المروية في ثلاثة من الكتب الأربعة (الكافي، ومن لا يحضره الفقيه، والتهذيب) بالإضافة إلى روايته مسنداً في عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق، والخبر المروي عن الإمام الهادي (عليه السلام) في الإقبال، وغير ذلك من المصادر.
ففي مناسبة رحيل الشيخ محمد الفاضل اللنكراني (رحمه الله) سمعت من خلال المذياع، أحد السادة الفضلاء وهو على المنبر، يذكر خبراًـ وهو مما يُنقل وليس له مصدر معتبر ـ مفاده أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان جالساً عند قبر الزهراء (عليها السلام) ـ والظاهر أن ذلك لم يكن في الليلة الأولى لوفاتها، إنما في بعض الليالي اللاحقة ـ وقد رآه ابن عباس وهو شديد الجزع، فأخذ بيده وجره عن القبر وعاد به إلى الدار … إلخ.
هذا الخبر نقله السيد هاشم الحسيني البوشهري، مدير الحوزة العلمية، في خطابه المباشر من المسجد الأعظم في قم، بمناسبة رحيل الفاضل اللنكراني، وإقامة مجلس الفاتحة على روحه من قبل السيد القائد الخامنئي حفظه الله تعالى، فيما كانت وسائل الإعلام تنقل ذلك مباشرة، مما دفعني أن أذكّر بذلك؛ كي لا تصل المسامحة في نقل الأخبار إلى هذه الدرجة.
وفي الخبر الذي أشرنا إليه ـ بالإضافة إلى ما ذكرناه في سنده ـ أن الجزع الشديد لا يتناسب مع شخصية أمير المؤمنين أولاً، وأن في جلوسه على القبر مظنّة لكشفه، وهذا مخالف لوصية الزهراء (عليها السلام) في إخفاء قبرها ثانياً، والأمر الثالث أن أولاده كانوا صغاراً، فكيف يمكن أن يتركهم في الليل يترقبون رجوعه؟!
وفيه أيضاً أنه يتنافى مع ما ذكره السيد البوشهري نفسه في خطابه، من تأبين أمير المؤمنين (عليه السلام) للزهراء (عليها السلام) وهو ما رواه الكليني في أصول الكافي، بسنده عن الحسين (عليه السلام) قال: لما قبضت فاطمة (عليها السلام) دفنها أمير المؤمنين سراً، وعفا على موضع قبرها، ثم قام فحوّل وجهه إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ([15]) فقال: السلام عليك يا رسول الله عني، والسلام عليك عن ابنتك وزائرتك والبائتة في الثرى ببقعتك([16])… إلخ.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
([3]) والظاهر أنها (الروضة) أي روضة مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) وهي التي بين القبر والمنبر، كما ورد عنه (صلى الله عليه وآله): ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة. وليس (طيبة) لأن كون قبرها (عليها السلام) في طيبة (المدينة) من الأمور المعلومة. ولعل في الخبر تصحيفاً.
([4]) من لا يحضره الفقيه 1 : 229، ح685.
([5]) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1 : 311، ح76.
([6]) من لا يحضره الفقيه 2 : 572.
([7]) التهذيب 3 : 255، الباب 25، حديث 25.
([8]) مناقب آل أبي طالب 3: 365، مؤسسة العلامة للنشر / قم.
([10]) بحار الأنوار 43 : 212، عن عيون المعجزات للسيد المرتضى.
([12]) مناقب آل أبي طالب 3: 413.
([14]) موسوعة التاريخ الإسلامي 4: 157، عن البحار43: 215.
([15]) وهذا المقطع من الخبر يتناسب مع ما ذهبنا إليه من أنها (عليه السلام) دفنت في بيتها، فهو يتلاءم بشكل أكبر مع الأقرب، وهو قبر النبي (ص).
([16]) وهذه إشارة أخرى إلى أن قبرها في بقعة رسول الله (ص) وبالقرب منه.