أضواء على المشروع الإحيائي للإمام الخميني رحمه الله – الدكتور الشيخ نجف علي ميرزائي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
مناسبة رحلة الإمام الخميني قد تكون مناسبة مهمة جداً في إثارة المشروع الإحيائي والإصلاحي للإمام. ومشروع الإحياء الحوزوي يشكل ـ بلا شك ـ المشروع المحوري والمركزي للإمام في إيجاد هذا التطور العظيم في كل الساحات. ولكن من أجل أن نكون واقعيين وموضوعيين ومنصفين مع الحوزة العلمية والإمام ومع المشروع المشار إليه، علينا أن ندرك أن الإمام لم يخرج عن الخط المعتدل الحوزوي، إنما طرح خطاً معتدلاً أيضاً، ودافع عنه، وتسالم وتسامح مع بعض المشاكل الفكرية التي لا تمس مشروعه السياسي الديني، ولم يكن فظاً عنيفاً مع التوجهات الأحادية في الحوزة، إنما تركها وسكت عنها، فيما أبدى حساسية كبيرة جداً تجاه بعض التوجهات الحوزوية التي كانت تستهدف ضرب مشروعه الإسلامي الإحيائي الاجتماعي. كما أبدى جدية وصرامة كبيرة جداً، مع الذين كانوا يبحثون عن فرص ومنافذ ووسائل تحت ستار الدين، لإفشال هذا المشروع الإحيائي العظيم.
فالإمام الخميني صاحب أكبر مشروع إحيائي حوزوي، وقد كان هادئاً متسالماً مع التوجهات الحوزوية حتى تلك التي لم تكن تصب مباشرة في صالح مشروعه، لكنها لم تكن تهدف إلى ضرب أو إفشال أو إعاقة ذلك المشروع الإحيائي الديني الشمولي، فلا يمكن اعتبار صمت الإمام مقابل بعض التوجهات الفكرية في الحوزة تأييداً أو توافقاً أو انسجاماً مع تلك التوجهات، ويجب أن نفسر بعض التعبيرات أو المواقف التي أبداها في ما يخص الفقه الجواهري وأمثال ذلك، تفسيراً وفهماً دقيقاً قبل التعرض لها.
وعلى العموم فإن مشروع الإمام الإصلاحي والإحيائي لا يشبه في مصطلحاته المشاريع الإحيائية الأخرى في الحوزة. فلم يتحدث الإمام في مشروعه التجديدي المعمق الجوهري الشامل، كما تحدث المثقفون من الحوزويين أو أصحاب المشاريع التجديدية، وهذا من الامتيازات الإيجابية في فكر الإمام الخميني، ومن أهم أسباب نجاح مشروعه الإحيائي.
إذن، تفكيك الخطاب الإحيائي والإصلاحي للإمام، وفرز المصطلحات، وصياغة هذا الخطاب، يكشف عن وجود فوارق أساسية بين الخطابين: خطاب الإمام الإصلاحي، وخطاب المصلحين والمجددين والمثقفين الذي نشهده ونعهده هذه الأيام، أو منذ زمن ليس بالقريب. فالإمام الخميني تعامل مع النظرية تعاملاً دقيقاً، وسوف أذكر عما قريب أهم سمات وخصائص هذا المشروع، وقد لا تكون هذه السمات التي يمكن فهمها من خلال قراءة ذلك الخطاب، مختلفة تماماً عن السمات التي تسود الخطابات الإصلاحية الأخرى، إلا أن الإمام لم يباشر في إثارة هذه النقاط إلا عندما تحدث عن التطوير الواقعي والموضوعي للحياة الاجتماعية.
فعلى سبيل المثال، يمكننا الحديث عن ضرورة إعادة القرآن الكريم كمرجعية علمية معرفية إلى الحوزة العلمية، وندعي أن هذه المرجعية غائبة، ويجب إحضارها وجعلها تسهم بقوة في صياغة الحكم الشرعي والفتوى. هذه هي لغتنا التي نتحدث بها هذه الأيام. أما الإمام فلم يتحدث بهذا الخطاب، إنما كان يثير ما يمكن أن ينفض الغبار عن القرآن الكريم، ويحوله من كتاب يتلى لتحصيل الأجر والثواب والبركة، إلى مصدر اجتماعي. فهو يعتمد هذا الخطاب دون أن يمس أحداً، أو يُفهم من كلامه أنه موجه باتجاه أحد ما أو ضرب جهة ما، باستثناء من يريد ضرب مشروعه الإحيائي الشمولي. فالإمام يصف لنا بدقة واقعاً اجتماعياً مزرياً ضعيفاً هابطاً غير فاعل، ويضعنا أمام حالة نضطر معها إلى قبول الطريقة التي يقدمها للخروج من هذه الأزمة الاجتماعية، فهو لا يعيش طوباوية النظريات الثقافية والفكرية والمنهجية.
صحيح أن الذين سبقوه وتلَوه تحدثوا بالكثير من هذه المصطلحات وردّدوها، إلا أنه تحدث بخطاب آخر ولغة ومصطلحات أخرى، تدخل جميعها في مصب واحد هو المشروع الإحيائي الشمولي الواسع الذي يشمل العقل والمعرفة والمنهج والاجتهاد والتبليغ والنظام والإدارة وغير ذلك، فكان خطاباً مختلفاً في صياغته وانتقاء مصطلحاته وكيفية التعامل مع المخاطب الحوزوي وغيره من أصناف المجتمع.
أما عن أهم المصادر التي يمكن اعتمادها كمنطلقات لمعرفة صياغة ذلك الخطاب، ودراسة شخصية الإمام أيضاً، ومعرفة مشروعه الإصلاحي في الحوزة، فأنا شخصياً أعتبر أن أهم المصادر هو سيرته الواقعية وتعامله العملي مع الواقع الاجتماعي، خاصة ما يتعلق منها بالثورة والنظام الإسلامي الذي أسسه. فقد قدم الإمام الخميني مشروعاً إصلاحياً وإحيائياً عملياً، من خلال سيرته العملية وممارسته القيادة العليا للنظام، التي كشفت عن معالم وخصائص هذا المشروع الإسلامي الإحيائي العالمي، حيث كان الإمام يمثل ذروة التطبيق العملي للصحوة الإسلامية في العالم. لذا يمكن من خلال سيرته أن نكشف تفاصيل ودقائق هذا المشروع أكثر بكثير مما لو راجعنا كتاباته ومؤلفاته وأمثال ذلك، لسببين أساسيين:
1 ـ إن الكتابة لا تعكس التفاصيل والدقائق كما تعكسها السيرة. وهذا أمر معروف، فأنت في حياتك اليومية تستطيع في مسيرة يوم واحد أن تعكس وتكشف تفاصيل لا يمكن أن تعكسها من خلال كتاب أو موسوعة. فالسيرة أصدق وأدق في التعبير عن المعالم المنهجية والفكرية وغير الفكرية للإنسان.
2 ـ إن الإمام نفسه اختار هذه الطريقة، فهو مثلاً يؤيد الشهيد المطهري تأييداً مطلقاً ـ ولا أعني تأييد التفاصيل الفكرية والمواقف العلمية بكاملها ـ فالمعروف عنه أنه لم يقل في شخصية من علماء الحوزة العلمية كما قال في الشهيد المطهري، بأن كتبه ـ دون استثناء ـ مفيدة للقراء من الشباب وغيرهم، ونصح الناس من المجتمع الإيراني والوسط الحوزوي بقراءة كتب الشهيد المطهري كلها. وهذا ما لم يقله في أحد غير الشهيد المطهري.
ومن خلال ذلك يمكننا أن نكتشف مدى الانسجام المنهجي بين الشخصية المؤيِّدة وهي شخصية الإمام، والشخصية المؤيَّدة وهي شخصية الشهيد المطهري.
وكمثال آخر فإن الإمام لم يتحدث نقداً وبشكل علني عن الدكتور علي شريعتي، وسكت عن ذلك، إلا في بعض المجالس الخاصة. ومن خلال ذلك يمكن أن نفهم بكل سهولة أنه كانت له تحفظات على منهج الدكتور شريعتي، وأنه أيضاً لم يكن يرى أن الدكتور شريعتي يتجه في أغلب خطوطه بالاتجاه المنحرف، لأن الإمام لم يكن يهادن الفكر المدمر والمخرب أبداً. ولو كان له موقف متشدد حيال فكر الدكتور شريعتي لقاله وأوضحه.
إذن يمكن استكشاف بعض مفردات الخطاب الإصلاحي للإمام حتى من خلال هذا النوع من المواقف. وبناء على ذلك يمكن أن نعمم هذه القاعدة من خلال تنصيب الشخصيات السياسية، وإسناد المسؤوليات للأشخاص والشخصيات الفكرية والاجتماعية، وتقريب بعض العلماء منه كالدكتور الشهيد بهشتي مثلاً والشهيد مطهري وأمثالهما، وكيف كان يبحث عن البديل في الأزمات التي تعرض لها النظام الإسلامي.
فخوضه للتجربة الاجتماعية السياسية الإسلامية المعرفية الكبيرة جداً يمثل أكثر الموارد خصوبة لمعرفة مفردات تفكيره ومنهجه وخطابه.
ثم يأتي بعد تلك السيرة والإدارة العملية للواقع الاجتماعي المصادر الفقهية والأصولية والرسائل وبعض البيانات والنداءات المهمة التي وجهها لعلماء الدين خصوصاً، كمنشور الأخوة، ومنشور العلماء، أو تلك التي صدرت رداً على بعض الشبهات والإشكالات التي أثيرت، كما في بعض الأسئلة الجادة التي أثارها الشيخ الأنصاري. فقد أجاب الإمام عن مثل هذه الأسئلة بكل صراحة وبين الكثير من المواقف.
وكمصدر ثالث من مصادر منهجية الإمام، سيرته الأخلاقية، وما لديه من شمولية روحية وفكرية وعلمية عهدناها في هذه الشخصية الفذة.
إذن لدينا منهجان في معرفة المعالم المنهجية للمشروع الإحيائي للإمام، والخطاب الإصلاحي له: منهج دراسة سيرته، ومنهج دراسة نصوصه، وأنا أعتبر أن الأول أهم في معرفة هذا المشروع.
تعتبر التوجهات الفلسفية أو الرؤى العامة النقطة المركزية والمحورية في مشروع الإمام الإصلاحي في الحوزة العلمية، فهو لم يبدأ من المفردات والجزئيات، إنما بدأ بعد حسم المعرفة الفلسفية للدين والفقه والأصول والقرآن الكريم والدور الذي يمكن أن يلعبه القرآن، وأمثال ذلك. فهذه المواقف الفلسفية العامة هي التي قام عليها فكره الإصلاحي، وهذا أمر مهم ينبغي أن نعرفه، فإن منطلقات فهم الإمام المنهجي للدين تختلف بشكل جوهري عن منطلقات النسبة الغالبة من المرجعيات الدينية. وهذا الاختلاف الجوهري يعود إلى اختلاف في وعي فلسفي للدين، ولا أعني بذلك الوعي الفلسفي اليوناني مثلاً، إنما أعني الوعي المتعلق بالجانب الحكمي والتعليلي للدين والتشريع وأمثال ذلك، فالإمام لا يولي أهمية للمعرفة التي لا تُنتج أثراً في واقع الحياة الإنسانية، ولا يصنفها في أولويات المرجعية الدينية، وهذا ما يطرح في مجال الذهنية والموضوعية، أي في المجال الموضوعي والواقعي والعلمي في مقابل التوجه الذهني الانتزاعي والاعتباري والتجريدي. وكثيراً ما نرى الإمام يتحدث بلغة شفافة واضحة دون لف أو دوران، فعندما يصل إلى أن هناك نقطة خراب وتدمير، يصارحك فيها دون لف أو مراوغة، وكانت لغته شفافة جداً مع الحوزة والعلماء والمراجع.
كان في الكثير من المواطن والمواقف يقول: إن مهمتي كعالم دين لا تنتهي عند حد التعبير عن المسألة الشرعية. وهذا ما نجده بعض كتبه، كولاية الفقيه والحكومة الإسلامية، وكشف الأسرار، وكذلك في رسائله التي يوجهها إلى علماء الدين، نجده دائماً يردد هذا الموضوع ويتحدث عن هذا الأمر. كان يقول: نحن
ـ مع الأسف الشديد ـ نتصور أن علينا التنظير وعلى الآخرين التطبيق.
هذه الأقوال نابعة من فهم فلسفي لحقيقة وجوهر الدين. فقد كان يرى أن الاهتمام بالعباديات يأتي بالدرجة الثانية في التناول الديني لهذه الموضوعات.
يقول في إحدى رسائله: عندما نقارن بين الرسائل العملية وبين القرآن الكريم، نجد أن الرسالة العملية في القسط الأكبر منها عبادات وأحكام، أما القضايا السياسية والاجتماعية والحياتية والإنسانية الواقعية، فتشكل الجزء الأقل. أما في القرآن الكريم فنجد أن الجزء الأقل في آيات الأحكام والعباديات، والنسبة الكبرى منه تتحدث عن الاجتماعيات.
هذه هي رؤية الإمام للدين، وتصنيفه للأولويات الدينية في المصادر الشرعية، وهي رؤية تختلف عن الرؤى الأخرى، لذا تأتي المفردات والمصطلحات والاهتمامات العلمية مختلفة عما نعهده عند الآخرين. وهذه قضية جوهرية.
فمثلاً، في ترشيد المصطلح الأصولي أو المنهجي، لم يخصص الإمام باباً في هذا المجال، لكنه رشّد وطور بشكل عملي. لاحظوا تطور المصطلح الفقهي عنده وعند غيره، تجدوا أن الفقه عنده يختلف عما هو عليه عند الآخرين. فعندما يستخدم مصطلح (الفقه) فإنه يعني المصطلح القرآني الشمولي العام، إلا إذا قيد ذلك بالفقه السنتي أو غيره.
وعندما يقول: الحكم في نظر المجتهد الواقعي هو الفلسفة العملية لكل الفقه وفي كل زوايا حياة البشر، فإنه يقدم رؤيته عن الفقه. وكذلك عندما يقول: الفقه هو النظرية لإدراة الإنسان من المهد إلى اللحد.
هذا الشمول لا نجده في الفقه بالمصطلح الحوزوي، الذي لا يشكل هذه التغطية، ولا نجد فيه هذا الإطار الشامل.
نلاحظ إذن أن تفسير الإمام لهذه المصطلحات يختلف عن تفسير غيره من حيث الإطار والمدلولات. وهذا ما نلحظه أيضاً في المصطلحات الأصولية، فإننا نجد قسطاً وافراً من هذه التغييرات في سيرته العملية أو في تعاطيه المباشر مع إدارة الثورة الإسلامية والنظام الإسلامي، وهذا البلد الكبير بمؤسساته المتنوعة. فكان يخوض ويدير هذه التجربة، ويواجه عملياً كافة الأزمات التي من شأنها أن تقف في وجه النظريات الدينية، والتي كان يراها ماثلة أمامه. لذلك نجد أن الانشغال الذي واجهه الإمام كان أكبر، في فترة السنوات العشر التي مارس فيها إدارة هذه التجربة العالمية الكبيرة، إلى جانب اهتمامه المباشر، بما يجري في العالم، وبما يعانيه الفكر الديني في خوض هذه التجربة العالمية، وأن همومه ازدادت واشتدت في هذه الفترة وهو يبحث عن الحل.
ففي تقديري أن دراسة هذه التجربة تعطينا أهم مميزات وخصائص الرؤية الإصلاحية للإمام، ولكن بالإمكان الحديث عن بعض المشخصات العامة لهذه الرؤية، إذا ما شرعنا في موضوع حل إشكالية الذهنية والموضوعية، وأنا أعتبر أن ذلك أكثر الخصائص أهمية، لأن وجود هذه الإشكالية، وعدم العمل الجاد على حلها، يشكل أكبر عائق أمام التحول والتطوير والتحديث في ما يخص الدين.
كان الإمام رضوان الله عليه يردد في أكثر من رسالة وكتاب قوله: لا تبحث أيها الطالب عن تقديم الوصفات للمجتمع من داخل غرفتك، إنما عليك أن تبحث عن الحل وأنت وسط السوق (أي في داخل المجتمع).
ومن المعروف أن الشهيد الصدر كان يقول بضرورة البدء في التفسير لا من النص إلى الواقع، بل بعكس ذلك، أي من الواقع إلى النص، لأن النص جاء ليعالج الواقع. فالنص الديني لم يأت ليؤمّن نظرية وحلاً بعيداً عن المشكلة، إنما جاء ليؤثر في هذه الحياة، وبدون معرفة الحياة لا يمكن فهم وإدارة النص وربط أجزائه ببعضها، وتخصيص أو تعميم بعضها.
وفي رؤية الإمام يجب أن ينطلق العمل الاجتهادي والتنظير الديني من داخل الواقع، وهذا لا يعني أن يكون النص مرناً يتحرك مع الواقع، فالنص بنّاء للواقع، لكن الإمام يريد أن يقول: أنت تبحث عن العلاج، والعالم لا يتغير كما تريد، وهناك دوائر تتحرك لا يصدق عليها الصحيح والخطأ، إنما هي ضمن دائرة العرف البشري، والإنسان يعيش في دوائر متحركة وأخرى ثابتة، فلا يمكن مثلاً أن نفرض على الناس أن يبنوا مبانيهم بشكل واحد، أو أن يتعاملوا مع بعضهم ويحترموا بعضهم بأنماط ثابتة ومشخصة، أو أن يبعثوا أولادهم إلى المدارس بالطريقة التي كانت قبل مئات السنين. فالإنسان حر في أن يختار لنفسه مناهج معينة للحياة، ونحن نأخذ من الثوابت الدينية ما يعيننا في إدارة المتحرك من حياتنا. فيجب أن يبدأ المشوار في التنظير والتحرك الديني من هذا الواقع. وهذا من الامتيازات الكبيرة والمهمة جداً في منهج الإمام الخميني.
وفي لفتة مهمة جداً للإمام في هذا الموضوع، وردت في رسالة له إلى العلماء، يصف فيها المشخصات والخصائص والسمات البارزة للمجتهد (الواقعي)، فهو يصف المجتهد الواقعي، ويضع نقاطاً دقيقة كخصائص ومعالم لهذا الاجتهاد، فيقول: على المجتهد أن يكون ملماً بالمدارس الاقتصادية المعاصرة. ولو قارنا بين هذه الرؤية والرؤية السائدة لوجدنا أن من الظلم والإجحاف أن يساوى الإمام بغيره، وأمامنا مشروعه شاهداً على ذلك.
يقول رضوان الله عليه في هذه الرسالة: على المجتهد أن يكون ملماً واعياً عارفاً بتفاصيل هذه المدارس الاقتصادية، ويجب أن يعرف نقاط الضعف والقوة في المعسكر الليبرالي الرأسمالي والمعسكر الماركسي الاشتراكي.
ويضيف قائلاً: وعليه أن يكون متمكناً من إدارة المجتمع الإسلامي بل حتى غير الإسلامي.
وأنا لا أفهم من هذا التعبير الأخير التطرف في البحث عن أسلمة الحياة بالمعنى التقليدي، إنما أفهم أن مرونة الرؤية الدينية للإمام، ومدى قابليتها للانطباق مع التنوع الديني، تسمح له بطرح مثل هذا الرأي. ولا يُقصد من ذلك أن أحداً يبلغ ذروة الحكم في بلد ماركسي أو غير إسلامي في أوربا أو غيرها، ثم يقوم بتطبيق الأحكام الشرعية في ذلك البلد على غير المسلمين.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن الإمام لم يقل كل شيء، إنما قال القليل مما يمكن أن يقال. يقول عن الإمام علي (ع): إن الإمام علياً (ع) لم يَبُح بما كان في صدره، ودفنت معه الحكمة جلُّها. فعلي (ع) لم يبح بكل ما في صدره من علم وحكمة، وإن كان ما باح به كاف لنا في أن نصل إلى ذروة ما يمكن أن نصل إن شاء الله. وهذا ما حصل مع الإمام الخميني نفسه، فهو لم يبح إلا بالقليل مما كان في صدره، خاصة في موضوع المشايخ والعلماء، وهذا واقع يجب أن يعرفه الجميع. لقد كان في قلب الإمام غصة وغم وهم وآلام وأوجاع في موضوع المشايخ والعلماء، ولم يكن يبوح بكل شيء .
يراسله أحد المشايخ من بيوت أحد العلماء فيقول مخاطباً الإمام: أنت بقولك هذا تشطب أبواب المزارعة والمساقاة والكثير من الأبواب الفقهية، فيقول له الإمام: وإنْ، وهذا قليل مما أستطيع أن أقول لك، أي أنه لم يقل له كل شيء.
كل هذا التطور الهائل ينشأ من نقطة أساسية تحدثت عنها سلفاً، وهي أن الإمام يقيّم المعرفة بمقدار ما تنجح في تغيير الواقع نحو الأحسن، فيقول: إن عملنا ليس فقط أن نصلي ونصوم، فهو يضع أمامنا مهمة أخرى، ويزيل من أمامنا كل المعوقات، أو الموانع والعراقيل، للوصول إلى هذا الفهم التوحيدي، في خطاب واضح صريح، ولكن لا يسوقه كخطاب مجرد، إنما يكون خطاباً كامناً داخل عمله الفكري، والمطلوب هو استكشاف واستخراج هذا الخطاب وخصائصه وسماته.
يقول في معرض الحديث عن ضرورة أخذ الواقع الاجتماعي بعين الاعتبار (وأظن أنه كان يخاطب رئيس الشرطة قبل انتصار الثورة): إنهم يتعاملون بحماقة عندما يريدون إضعاف عالم الدين في المجمتع. ثم يبرهن على ذلك بقوله: إن عالم دين واحد يمكنه أن يؤثر إيجابياً في المجتمع أكثر من مائة شرطي… ابحثوا في السجون، هل تجدون فيها أحداً ممن يرتاد المساجد ويصلي فيها؟ ثم يقول: إن إضعاف الشيخ وعالم الدين خيانة عظمى للوطن والمجمتع.
فعندما نقرأ فهمه لأثر الصلاة في الواقع الاجتماعي نفهم أنه يربط بين الجانب العبادي والاجتماعي ربطاً مباشراً، لذا يتوقع من الشرطي أن يفهم منه أن الشيخ في خدمة مشروع الشرطة إن كانوا صادقين في منع انتشار الفساد والجريمة.
وفي رسالته إلى العلماء يقول في معرض الحديث عن تغيير الحكم مع بقاء الموضوع: إن فهمنا الدقيق أحياناً لعلاقة الاجتماعي بالسياسي والاقتصادي والثقافي، يغير الحكم. فالموضوع ثابت بحسب الظاهر، لكن مقتضيات الزمان والمكان، ومعرفتنا بهذه العلاقات ومن ثم تغيير هذه العلاقات يمكن أن يؤدي إلى تغيير الحكم. فنطاق التطوير للحكم الشرعي عند الإمام واسع جداً.
. ومن الممكن أن يتميز شخصان في محاولة فهم الدين فهماً شمولياً، ويكون كل منهما منتمياً إلى مدرسة ما، ويختلفان في الوقت نفسه أيضاً في تفسير بعض الأحكام. ولكن ـ مع الأسف الشديد ـ هناك ظاهرة سلبية، فالبعض يحاول أن يفهم الدين من زاوية محددة ضيقة ثم يصادر كل التوجه الديني من ذلك المنظار الضيق.
أما عندما نتحدث عن الإمام فإننا نتحدث عن شخص يستخدم في مشروعه كلاً من الفلسفي والعرفاني والأخلاقي والفقهي والأصولي، ويضعها جميعاً في خدمة هذا المشروع، وفي سلم أولويات دقيقة، فلا يقدم الفرعي على الأصلي، ولا الفقهي على العقدي، ولا الأخلاقي على العقدي، ولا يؤخر العقلي عن النصي، إنما يضع سلماً دقيقاً لذلك، وهذا يحتاج إلى وقت طويل لإيضاحه وبيانه.
أما النقطة الأخرى التي تمثل ميزة مهمة جداً في مشروع الإمام الإحيائي فهي أنه كان يتحدث بلغة الحوزة، ويلتزم ثقافتها، ما دامت هذه الثقافة ليست سيئة، فكان يتحدث مع الحوزويين بثقافتهم ولغتهم، مع ما كان يحتويه فكره الإحيائي من مفاصل جوهرية مختلفة وكبيرة جداً، لكنه كان يبدو وكأنه تقليدي إلى جانب التقليديين الآخرين. ومن المهم جداً أن يكون الخطاب الإصلاحي الحوزوي بلغة الحوزة وضمن ثقافتها.
يقول الإمام مثلاً: لا أرى مبرراً لتجاوز المنهج الجواهري في تناول الفقه. لكنه يقول في مورد آخر: الاجتهاد المصطلح غير كفوء لإدارة الحياة اليوم. ولا بد من قراءة التعبيرين معاً، إلى جانب موارد أخرى كقوله: بهذا الاجتهاد المصطلح لا يمكن إدارة قرية.
فعلى فرض اعتبار الرسالة العملية العاكس الصادق للكفاءة في الاجتهاد المصطلح، ألا يمكن أن نعتبر كلام الإمام صادقاً فعلاً في كون الاجتهاد المصطلح غير كفوء لإدارة قرية؟ وذلك بسبب تطور العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والتربوية والأسرية وغيرها، فهل يمكن اليوم إدارة هذه الأجواء في قرية ما ضمن هذه المبادئ ؟
والإمام في هذا التقييم ليس في صدد ذكر النقائص، إنما في صدد ذكر النواقص، فهو يريد أن يتحدث عن نقص لا عن مَنقصة. وكأنه يريد أن يقول: علينا أن نجدد في رؤيتنا وتوجهنا ووضعنا أسس الاجتهاد وأمثال ذلك.
إذن ينبغي أن يكون الخطاب الإصلاحي بلغة الحوزة، ولا يستفز أحداً، إلا من كان يُستفَزّ في كل الأحوال، وهذا ما لا بد منه، وكان الإمام شجاعاً إلى درجة لا يخاف معها لومة لائم عندما يكون فعلاً في صدد التغيير، وفي سبيل الله.
في رسالة له من العراق عندما كان يسمع أن بعض العلماء والمشايخ يتعاملون مع بعض الجهات المشبوهة في إيران، ويتهمون الإمام بأنه يدمر الإسلام ويريق دماء المسلمين، يقول: هل مات شباب إيران؟ لماذا لا يُقدمون على إزالة العمائم من رؤوس هؤلاء ؟
إن الإمام في عشرات المرات كان يصف الحوزة بأنها (حوزة نائمة) … كان يقول: من يوقظ حوزة النجف من هذا السبات العميق ؟ العالم الإسلامي في خراب ودمار، والمجتمع الإسلامي مهزوم، والأطفال المسلمون يقتلون…إلخ.
هناك تعبير مهم للإمام ينبغي أن يسجل في ذاكرتنا، وهو تعبير مفصلي في ما أثرته لحد الآن. يقول الإمام: ضعوا هذه الدقائق العلمية، والحقائق الدقيقة جانباً، لأن خوضنا في هذه التدقيقات الزائدة أبعدنا عن مسؤولياتنا الخطيرة.
هذا الكلام يقال للمعجبين بحياكة وتوهم مداليل جديدة، وللمولعين بالبحث عن الدقائق العلمية والفلسفية في تعابير معينة مثلاً.
كان الإمام يزيل القداسة عن المصطلحات بكل جرأة، فيصف من يحمل المصطلحات المجردة أحياناً، في الأصول والفقه وغيرهما بالحمار: (كمثل الحمار يحمل أسفار) .
1 ـ إن الإمام كان يصنف العناوين وفق الأولويات الدينية.
2 ـ صلة النظرية بالواقع وتفسير النص في ضوء التعايش مع الواقع، سواء تعايُش النص نفسه أم تعايش قارئ النص، وهناك فرق واضح بين تعايش النص وتعايش قارئ النص مع الواقع.
ومما هو جدير بالذكر هنا أن الإمام يعتقد بوجود جذور للعلمانية في الحوزة، كما يعتبرها المرسِّخ الأول لمبدأ العلمانية في فصل الدين عن السياسة، كما كان يعتبر أن بعض المراجع والعلماء الكبار في الحوزة، ينطلق من منطلق العلمانية، وهذا أمر مستغرَب، لكنه حقيقة نشهدها اليوم أيضاً، فالكثير من العلماء يهمه أن يحضّر للبحث الخارج، والإمام يهاجم هذا الخط العلماني داخل الحوزة، لأن العلمانية تواجَه خارج الحوزة بسهولة نسبية وبتضحيات أقل، أما مواجهة خط العلمانية داخل الحوزة فلا نقدر عليها نحن، إنما نحتاج إلى شخص مثل الإمام.
يقول الإمام: الإسلام غريب، وإزالة الغبار والغربة عن الإسلام بحاجة إلى ضحايا، وأدعو الله أن يجعلني من هؤلاء الضحايا.
ولم يكن يعني بذلك أن يكون ضحية مادية، إنما ذلك يتعلق بالقضايا الفكرية ومواجهة التحجر والرجعية ذات الجذور العميقة. وما طرحه في رسالته «منشور روحانيت» يمثل أواخر ما تبناه في حياته، وكان ذلك بعد انتصار الثورة الإسلامية.
ويقول أيضاً: «هذه الخطوط الشريرة داخل الحوزة ما زالت موجودة، إلا أنها قد غيرت من أساليبها» ويعني بذلك خطوط العلمانية الحوزوية.
لقد كان الإمام مختلفاً جوهرياً عن غيره، وكانت أفكاره متميزة بشكل جوهري عن الفكر السائد في الحوزة، ويجب أن نثق بذلك، ونعمل كلنا من أجل أن نفهم هذا المنهج ونعبر عنه بصدق وإخلاص دون مراوغة أو مواربة.