بسم الله الرحمن الرحيم
معنى الموضوعية في التفسير:
عندما نتكلّم عن الموضوعيّة في التفسير لابد لنا أن نوضّح مصطلح الموضوعية لكي يفهم القارئ المراد من الموضوعية في التفسير
فنقول: المراد من الموضوعية هو أن يبدأ المفسّر من الموضوع أي من الواقع الخارجي ومن الشيء الخارجي ويعود إلى القرآن الكريم فنعبر عن التفسير بأنّه موضوعي، باعتبار أنّه يبدأ من الموضوع الخارجي وينتهي إلى القرآن الكريم، ويسمّى هذا التفسير توحيديّاً باعتبار أنّه يوحّد بين التجربة البشرية وبين القرآن الكريم، لا بمعنى أنّه يحمل التجربة البشريّة على القرآن، لا بمعنى أنّه يخضع القرآن للتجربة البشريّة، بل بمعنى أنّه يوحد بينهما في سياق بحث واحد؛ لكي يستخرج نتيجة هذا السياق الموحّد من البحث، يستخرج المفهوم القرآني الذي يمكن أن يحدد موقف الإسلام تجاه هذه التجربة أو المقولة الفكريّة التي ادخلها في سياق بحثه, كما أن التفسير يسمّى بالموضوعي باعتبار أنّه يختار مجموعة من الآيات تشترك في موضوع واحد، وهو توحيدي باعتبار أنّه يوحّد بين هذه الآيات، ويوحد بين مدلولات هذه الآيات ضمن مركب نظري واحد، ولا نقصد بالموضوعية هنا الموضوعيّة في مقابل التحيّز، مثلاً: ما يقال عادة من أنّ هذا البحث موضوعي في مقابل أن يكون بحثاً متحيزاً أو منحازاً، طبعا الموضوعيّة بذلك المعنى مفروضة في التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي معاً، فليست الموضوعية بذلك المعنى من مزايا التفسير الموضوعي في مقابل التفسير التجزيئي، لأن الموضوعية بذلك المعنى عبارة عن الأمانة في البحث وعبارة عن الاستقامة على جادة البحث، تلك الموضوعية مفترضة في كلا الاتجاهين وإنّما الموضوعية التي نجعلها في مقابل التجزيئية غير تلك الموضوعية التي تقابل الذاتية والتحيّز، فالموضوعية هنا بمعنى أن يبدأ من الموضوع وينتهي إلى القرآن، هذا الأمر الأول، والأمر الثاني أن يختار مجموعة من الآيات تشترك في موضوع واحد يقوم بعملية توحيد بين مدلولاتها، من اجل أن يستخرج نظرية قرآنية شاملة بالنسبة إلى ذلك الموضوع. ([1])
الفرق بين الاتجاه التجزيئي والاتجاه الموضوعي:
كما لابدّ لنا من بيان أن التفسير له اتجاهان: الاتجاه التجزيئي والاتجاه الموضوعي، ونحاول الآن المرور على معنى وشرح هذين الاصطلاحين وتبيين الفارق بينهما.
فنقول إن المفسّر التجزيئي دوره في التفسير على الأغلب سلبي فهو يبدأ بتناول النص القرآني المحدد آية مثلاً أو مقطعاً قرآنياً دون أي افتراضات أو طروحات مسبقة، ويحاول أن يحدّد المدلول القرآني على ضوء ما يسعفه به اللفظ مع ما يتاح له من القرائن المتصلة والمنفصلة، فالعملية في طابعها العام عملية تفسير نص معين، وكأن دور النص فيها دور المتحدث ودور المفسر هو الإصغاء والتفهّم، وهذا ما نسميه بالدور السلبي يعني المفسّر هنا عمله هو أن يستمع لكن بذهن مضيء، وبفكر صافٍ وبروح محيطة بآداب اللغة وأساليبها في التعبير، بمثل هذه الروح بمثل هذه الذهنية وبمثل هذا الفكر يجلس بين يدي القرآن ليستمع، فهو ذو دور سلبي والقرآن ذو دور إيجابي، والقرآن يعطي حينئذٍ وبقدر ما يفهم هذا المفسّر من مدلول اللفظ يسجل في تفسيره, وخلافاً لذلك المفسّر التوحيدي والموضوعي فإنّه لا يبدأ عمله من النص، بل من واقع الحياة كما في بحثنا الماثل, فيركز نظره على موضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية. ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل، وما قدمه الفكر الإنساني من حلول وما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة ومن نقاط فراغ، ثم يأخذ النص القرآني، لا ليتخذ من نفسه بالنسبة إلى النص دور المستمع والمسجل فحسب، بل ليطرح بين يدي النص موضوعا جاهزاً مشرّباً بعدد كبير من الأفكار والمواقف البشرية، ويبدأ مع النص القرآني حواراً وسؤالاً وجواباً، المفسّر يسأل والقرآن يجيب المفسر على ضوء الحصيلة التي استطاع أن يجمعها من خلال التجارب البشرية الناقصة، من خلال أعمال الخطأ والصواب التي مارسها المفكّرون على الأرض، ولابد وأن يكون قد جمع حصيلةً ترتبط بذلك الموضوع، ثم ينفصل عن هذه الحصيلة ليأتي ويجلس بين يدي القرآن الكريم، ولكن لا يجلس ساكتاً ليستمع فقط بل يجلس محاوراً, يجلس سائلاً ومستفهما ومتدبّراً، فيبدأ مع النص القرآني حواراً حول هذا الموضوع، وهو يستهدف من ذلك أن يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح والنظرية التي بإمكانه أن يستلهمها من النص، ومن خلال مقارنة هذا النص بما أستوعبه الباحث عن الموضوع من أفكار واتجاهات.
ومن هنا كانت نتائج التفسير الموضوعي نتائج مرتبطة دائما بتيار التجربة البشرية؛ لأنها تمثّل المعالم والاتجاهات القرآنية لتحديد النظرية الإسلامية بشأن موضوع من مواضيع الحياة.
ومن هنا أيضا كانت عملية التفسير الموضوعي عملية حوار مع القرآن الكريم واستنطاق له، وليست مجرّد استجابة سلبية بل استجابة فعّالة وتوظيفاً هادفاً للنص القرآني في سبيل الكشف عن حقيقة من حقائق الحياة الكبرى.
قال أمير المؤمنين وهو يتحدث عن القرآن الشريف: ((ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه: ألا إنّ فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم))([2]),التعبير بالاستنطاق الذي جاء في كلام ابن القرآن عليه الصلاة والسلام أروع تعبير عن عملية التفسير الموضوعي بوصفها حواراً مع القرآن الكريم وطرحاً للمشاكل الموضوعية عليه بقصد الحصول على الإجابة القرآنية عليها.
إذن فأول أوجه الاختلاف الرئيسية بين الاتجاه التجزيئي في التفسير والاتجاه الموضوعي في التفسير أن الاتجاه التجزيئي يكون دور المفسّر فيه دوراً سلبياً يستمع ويسجّل بينما التفسير الموضوعي ليس هذا معناه وليس هذا كُنهه وإنّما وظيفة التفسير الموضوعي دائماً وفي كل مرحلة وفي كل عصر أن يحمل كل تراث البشريّة الذي عاشه، يحمل أفكار عصره، يحمل المقولات التي تعلّمها في تجربته البشريّة ثم يضعها بين يدي القرآن، بين يدي الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ ليحكم على هذه الحصيلة بما يمكن لهذا المفسّر أن يفهمه وأن يستشّفه وأن يتبيّنه من خلال مجوعة آياته الشريفة.
إذن فهنا يلتحم القرآن مع الواقع، يلتحم القرآن مع الحياة. التفسير يبدأ من الواقع وينتهي إلى القرآن، لا أنّه يبدأ من القرآن وينتهي بالقرآن، فتكون عملية منعزلة عن الواقع منفصلة عن تراث التجربة البشريّة، بل هذه العملية عملية تبدأ من الواقع وتنتهي بالقرآن القيّم، بوصفه المصدر الذي يحدّد على ضوئه الاتجاهات الربانية بالنسبة إلى ذلك الواقع.
فمن هنا كان التفسير الموضوعي قادراً على أن يتطوّر، على أن ينمو، على أن يثرى؛ لأنّ التجربة البشرية تثريه من ناحية، ثم الدرس القرآني والتأمّل القرآني على ضوء التجربة البشرية يجعل هذا الثراء محوّلاً إلى فهم إسلامي قرآني صحيح.
كما أن التفسير الموضوعي يتجاوز التفسير التجزيئي خطوة؛ لأن التفسير التجزيئي يكتفي بإبراز المدلولات التفصيليّة للآيات القرآنيّة الكريمة، بينما التفسير الموضوعي يطمح إلى أكثر من ذلك، حيث يتطلّع إلى ما هو أوسع من ذلك فيحاول أن يستحصل أوجه الارتباط بين هذه المدلولات التفصيلية، ويحاول أن يصل إلى مركب نظري قرآني، وهذا المركب النظري القرآني يحتل في إطاره كل واحد من تلك المدلولات التفصيليّة موقعه المناسب، وهذا ما نسميه بلغة اليوم بالنظرية، حيث يصل إلى نظرية قرآنية عن النبوة، أو نظرية قرآنية عن المذهب الاقتصادي، أو نظرية قرآنية عن سنن التأريخ، وهكذا أو عن السماوات والأرض، فهنا التفسير الموضوعي يتقدّم خطوة على التفسير التجزيئي بقصد الحصول على هذا المركب النظري الذي لابدّ أن يكون معبّراً عن موقف قرآني تجاه موضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية. ([3])
التفسير و الإعجاز العلمي للقرآن: بين الرفض والقبول
ينقسم الباحثون المعاصرون في موقفهم من التفسير والإعجاز العلمي للقرآن الكريم إلى فريقين أساسيين؛ الرافضون المناوئون، والمؤيدون الموافقون، كما ينقسم الفريق الأول إلى ثلاث طوائف؛ الملحدون، والمتحجرون، والمشفقون المحافظون. بينما ينقسم الفريق الثاني إلى طائفتين؛ المفسِّرون المعاصرونـ والباحثون المختصون.
بيد أننا قبل أن نستعرض آراء كل فريق وموقفه لا بد أوّلاً من أن نسلط الأضواء على معنى التفسير العلمي والإعجاز العلمي، وما هي العلاقة بينهما.
ولذا فإنَّ الموضوع سيكون على أربعة مباحث.
الأول: التفريق بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي.
الثاني: الموافقون المؤيِّدون.
الثالث: الرافضون المناوئون.
الرابع: الضوابط والشروط.
الأوّل: الرافضون
ينقسم الرافضون للتفسير العلمي إلى ثلاثة أنواع من الباحثين:
أولا:الملحدون:
وهم الذين يرون أن التفسير العلمي للقرآن مجرّد تحميل الآيات على العلم الحديث من أجل إظهار مسايرة القرآن للعلم والتطوّر والتقدّم، مع أنّ القرآن نصٌّ قديم جاء ليخاطب الناس في القرن السابع الميلادي بمعلومات ومفاهيم يدركونها، ولم يكن هؤلاء يفهمونَ الآيات بهذا الشكل وبهذا العمق الذي لم يكن يخطر على بال أحدٍ منهم. بل إنَّ هناك أموراً كثيرة في القرآن أثبتَ العلمُ خطأها وعدم صحتها!، فأصبحت من الأساطير والخرافات بفضل التطوّرات العلميّة الهائلة التي كشفت أسرار الكون والحياة.
ويرى هؤلاء أنّ فتح أبواب التفسير العلمي يوقع القرآن والمسلمين معاً في (ورطة) كبيرة و(إشكالات) جمّة!
فيضربون أمثلة عديدة كأدلة على موقفهم.
منها في آية {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}([4]).
يقول بعضهم: «إنّ الصورة التي تقدّمها الآية هي: إنّ الشخص الذي يريد أن يضلّه اللّه يجعل صدرهُ ضيِّقاً فيستحيل عليه قبول الإسلام، مثلما يستحيل على أيِّ شخص محاولة الصعود إلى السماء.. أو أن تطلب من شخص ما أن يصعد إلى السماء، لأنَّ الطلب مستحيل عليه تحقيقه»([5]).
ثمّ يقول: «إنّ معنى يصّعّد غير معنى يَصْعَد، فكلمة يَصْعَد معروفة، الصعود إلى مكانٍ عالٍ، أمّا يَصَّعّد، فمعناها استحالة ذلك. إذن، كلمة (كأنّما يصّعّد) لا تعني الصعود، وإنّما تعني محاولة عمل شيء مستحيل»
ويؤيّد ما ذهب إليه بما ذهب إليه المفسرون – عبر التأريخ – في تفسير التشبيه المذكور، بقوله: «وقد أقرَّ المفسِّرون هذا التشبيه، استحالة تصعّد الإنسان إلى السماء كاستحالة تقبّل الكافر للإسلام.. فالصورة واضحة. القرآن لا يتكلّم عن الصعود وإنّما يتكلّم عن استحالة الصعود. فلماذا كلّ هذه النظريّات العلميّة التي نحاول أن نفصّلها على هذا النص القرآني، ونلبسها ثوب السبق القرآني العلمي؟! من أنَّ الآية تحكي عن الصعود إلى الأجواء وقلّة نسبة الأوكسجين وانخفاض الضغط الجوي»، الذي لم يخطر على بال أحدٍ من الصحابة في عصر النص، كما لم يخطر على بال مفسّر من المفسّرين السابقين.([6]).
الرد: وردّنا على ذلك إنَّ (يصّعّد) من الصعود، وليس من استحالة الصعود، وإنّما فهم المفسّرون ذلك من السياق لعدم معرفتهم بالحقيقة العلميّة التي تربط بينَ الصعود وضيق التنفس. وقد خلط المعترض بينَ الفهم الناتج من السياق وبينَ معنى المفردة، فظنَّ أنّ كلمة (يصّعّد) تعني استحالة الصعود أو صعوبته، مع أنّ التفسير الجديد وفق معطيات العلم جعلنا نفهم التشبيه فيهما منسجما مع اللفظ والسياق من دون تكلّف، فكلّما صعدنا إلى الأعلى كلما ضاق الصدر أكثر فأكثر، حتى يصل إلى مرحلة الحرج: { يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا }، وهو أشد الضيق.
الثانية: إنّ ما اقتبسه من ( لسان العرب ) في معنى ( يصعد ) يؤكد معنى الصعود في اللغة , حيث يقول: > يقال أيضا في تصعّد اِصّعّدَ …ومنه في سورة الأنعام {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} أي يتصّعد. وتصعّدني الشيء وتصاعدني شقّ عليّ < ولم ينقل الباحث غير هذا المقدار من لسان العرب , الذي يؤكّد معنى الصعود ولكن بمشقة. ومع ذلك يفهم منه الإستحالة ! , حيث يقول: ( أما يصّعد فمعناها استحالة ذلك !!
مع أنّ كل ما جاء في لسان العربِ , والمعاجم الأُخرى جميعاً , يدلّ على الصعود. فقد جاء بعد الذي اقتبسه من لسان العرب , ما يلى:
و إنّما اشتقوا ذلك لأنّ الارتفاع في صعود أشقّ من الانحدار في هبوط.
صعّد في الجبل وعليه وعلى الدرجة: رقي.
صعد المكان وفيه صعوداً واصّعد وصعّد: ارتقى مشرفاً.
اصّعّد: ارتقى إلى الصعود في الأماكن العالية.
صعّد في الجبل إذا طلع وإذا انحدر منه ([7]).
و جاء في معجم ( مقاييس اللغة ) لابن فارس:
صعد: الصاد و العين و الدال أصل صحيح يدل على ارتفاع و مشقه… و من الباب الصّعداء، و هو تنفس بتوجّع فهو تنفس يعلو… و يقال: تصعّدني الأمر: إذا شقّ عليك([8]).
وسيأتي ــ إن شاء الله ــ الحديث بالتفصيل عن ذلك في شروط و ضوابط التفسير العلمي.
المثال الثاني: في الآيات:{ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ *ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }([9]).
يقول المستشرق صموئيل زويمر: «أنَّ الشهد لم يزل معدوداً كالترياق في بلاد العرب استناداً إلى القرآن والحديث، وقد كانت الإشارة الوحيدة إلى الطب في وحي محمد. هذه الكلمة الغبيّة التي يقول فيها عن النحل أنّهُ { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ..}»([10]).
وراح زويمر يستهزئ بمقولة (العسل والشفاء) والتي أثبتتها البحوث العلميّة المعاصرة، إضافة إلى ما تتضمنهُ الآيات المباركة من إشارات مذهلة في الطرق التي يسلكها النحل ليعطي العسل بمختلف ألوانه وتنوّع عناصره. ولم يعد ينكر ذلك إلا غبي لا يعيش عصره، أو حاقدٍ يريد أنْ يطمس الحقيقة، ويدس السمَّ بالعسل! ([11]).
ثانيا:السلفيون المتحجرون
الذين يرونَ أنَّ التفسير العلمي للقرآن على حسب معطيات النظريّات العلميّة والفرضيّات يعتبر لهاثاً وراء الغرب وتحميلاً للقرآن على تلك النظريّات التي سرعان ما يثبت خطؤها وزيفها، شأنها شأن النظريّات العلميّة التي أصبحت مع تقدّم الزمن من الأساطير والخرافات. فالقرآن مقدّم على تلك النظريّات، ويجب أن نعرضها على القرآن ولا نعرض القرآن عليها.
وإجماع الصحابة والتابعين وعلماء الأمّة من المفسّرين لم يقل بهذه النظريّات ولم يفسِّر الآية كما يفسّرها أصحاب الإعجاز العلمي للقرآن.
ففي مسألة دوران الأرض وحركتها يقول الشيخ ابن عثيمين (محمد بن صالح العثيمين 1347 – 1421 هـ.، عضو في هيئة كبار (العلماء) في المملكة العربية السعودية منذ عام 1407 هـ. إلى وفاته. منح جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1414) وهو من في فتواه الشهيرة: «فنحنُ نقول: إنَّ نظرية كون اختلاف الليل والنهار من أجل دوران الأرض على الشمس، هذهِ النظرية باطلة لمخالفتها لظاهر القرآن الذي يتكلّم به الخالق سبحانه وتعالى، وهو أعلم بخلقه، وأعلم بما خلق، فكيفَ نحرّف كلام ربّنا عن ظاهره من أجلِ مجرّد نظريّات اختلفَ فيها أيضاً أهل النظر؟! فإنّهُ لم يزل القول بأنَّ الأرض ساكنة وأنّ الشمس تدور عليها، لم يزل سائداً إلى هذه العصور المتأخّرة»!!([12])
وإليك نصّ فتوى الشيخ ابن عثيمين حول دوران الأرض: «ومسألة دوران الأرض وعدم دورانها الخوض فيها في الواقع من فضول العلم ؛ لأنها ليست مسألة يتعيّن على العباد العلم بها ويتوقّف صحّة إيمانهم على ذلك، ولو كانت هكذا لكان بيانها في القرآن والسنّة بياناً ظاهراً لا خفاء فيه وحيث إن الأمر هكذا؛ فإنه لا ينبغي أن يتعب الإنسان نفسه في الخوض بذلك.
ولكن الشأن كل الشأن فيما يذكر من أن الأرض تدور وأن الشمس ثابتة وأن اختلاف الليل والنهار يكون بسبب دوران الأرض حول الشمس؛ فإنّ هذا القول باطل يبطله ظاهر القرآن؛ فإن ظاهر القرآن والسنّة يدل على أنّ الذي يدور حول الأرض أو يدور على الأرض هي الشمس؛ فإنّ الله يقول في القرآن الكريم: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم}([13])، فقال تجري فأضاف الجريان إليها، وقال: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ}([14]), فهنا أربعة أفعال كلها أضافها الله إلى الشمس: {إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ}، {وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ} هذه الأفعال الأربعة المضافة إلى الشمس ما الذي يقتضي صرفها عن ظاهرها، وأن نقول إذا طلعت في رأي العين وتتزاور في رأي العين، وإذا غربت في رأي العين وتقرضهم في رأي العين !! ما الذي يوجب لنا أن نحرف الآية عن ظاهرها إلى هذا المعنى سوى نظريّات أو تقديرات قد لا تبلغ أن تكون نظريّة لمجرّد أوهام!! والله تعالى يقول: {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ}([15]) والإنسان ما أوتي من العلم إلا قليلاً وإذا كان يجهل حقيقة روحه التي بين جنبيه؛ كما قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا}([16])؛ فكيف يحاول أن يعرف هذا الكون الذي هو أعظم من خلقه!! كما قال الله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}([17]) فنحن نقول: إن نظريّة كون اختلاف الليل والنهار من أجل دوران الأرض على الشمس هذه النظريّة باطلة لمخالفتها لظاهر القرآن الذي تكلّم به الخالق سبحانه وتعالى، وهو أعلم بخلقه، وأعلم بما خلق، فكيف نحرف كلام ربنا عن ظاهره من أجل مجرد نظريات اختلف فيها أيضاً أهل النظر؟! فإنه لم يزل القول بأن الأرض ساكنة، وأن الشمس تدور عليها، لم يزل سائداً إلى هذه العصور المتأخرة. ثم إننا نقول: إن الله تعالى ذكر أنه يكوِّر الليل على النهار، ويكور النهار على الليل، والتكوير بمعنى التدوير، وإذا كان كذلك فمن أين يأتي الليل والنهار إلا من الشمس ؟!! وإذا كان لا يأتي الليل والنهار إلا من الشمس ؛ دل هذا على أن الذي يلتف حول الأرض هو الشمس؛ لأنه يكون كذلك بالتكوير ثم إن النبي (ص) ثبت عنه أنه قال لأبي ذر ـ رضي الله عنه ـ وقد غربت الشمس: “أتدري أين تذهب؟” قال: الله ورسوله أعلم. قال: “فإنها تذهب فتسجد تحت العرش”إلى آخر الحديث»([18]).
أقول: ومن العجيب أن يتفوه إنسان يدعي العلم بهذه الكلمات حيث يتذرع بأدلّة واهية ومما أعجبني أكثر قوله(لأنها ليست مسألة يتعيّن على العباد العلم بها ويتوقّف صحّة إيمانهم على ذلك) فهل أفضل للإنسان أن يعلم أو يبقى جاهلا وهل أفضل للإنسان أن يطلع على ما حوله من المخلوقات والكونيّات أم العكس أفضل ؟!وكأنه تناسى الآيات التي حثت على العلم وأهمية العلم فهل هذا إلا الإيمان ببض الكتاب والكفر ببعضه بعينه, كما انه تناسى الأحاديث التي وردت عن الرسول (ص) وأهل البيت (ع) التي تؤكد فضل العلم والتعلم.
ويلخص الشيخ ابن عثيمين الأدلّة والشواهد على ثبات الأرض وعدم دورانها وحركتها في كتاب (فتاوى ابن عثيمين)([19]), المجلّد الأوّل حيث يقول: «ظاهر الأدلّة الشرعيّة تثبت أنّ الشمس هي التي تدور على الأرض، وبدورتها يحصل تعاقب الليل والنهار على سطح الأرض وليس لنا أن نتجاوز ظاهر هذه الأدلّة إلا بدليل أقوى من ذلك يسوّغ لنا تأويلها عن ظاهرها. ومن الأدلّة على أنّ الشمس تدور على الأرض دوراناً يحصل به تعاقب الليل والنهار ما يلي:
- قال الله تعالى عن إبراهيم في محاجته لمن حاجه في ربه: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}([20]), فكون الشمس يؤتى بها من المشرق دليل ظاهر على أنها التي تدور على الأرض.
- وقال أيضاً عن إبراهيم: { فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }([21]), فجعل الأفول من الشمس لا عنها ولو كانت الأرض التي تدور لقال: ﴿فلما أفل عنها﴾
- قال تعالى: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ﴾ فجعل الازورار والقرض من الشمس وهو دليل على أن الحركة منها ولو كانت من الأرض لقال: يزاور كهفهم عنها، كما أنّ إضافة الطلوع والغروب إلى الشمس يدل على أنّها هي التي تدور وإن كانت دلالتها أقل من دلالة قوله: (تزاور، تقرضهم).
- وقال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}([22]) قال ابن عباس رضي الله عنهما: يدورون في فلكة كفلكة المغزل. اشتهر ذلك عنه.
- وقال تعالى: { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} ([23]) فجعل الليل طالباً للنهار، والطالب مندفع لاحق، ومن المعلوم أن الليل والنهار تابعان للشمس.
- وقال تعالى: { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}([24]) فقوله: { يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} أي يديره عليه ككور العمامة دليل على أنّ الدوران من الليل والنهار على الأرض ولو كانت الأرض التي تدور عليهما لقال: ﴿يكور الأرض على الليل والنهار﴾ وفي قوله: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى} المبين لما سبقه دليل على أنّ الشمس والقمر يجريان جرياً حسيّاً مكانياً لأن تسخير المتحرّك بحركته أظهر من تسخير الثابت الذي لا يتحرّك.أقول: سوف يأتي الكلام حول هذه الآية الكريمة حيث سنثبت دلالتها على عكس كلامه.
- وقال تعالى: { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا *وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا}([25]), ومعنى (تلاها) أتى بعدها وهو دليل على سيرهما ودورانهما على الأرض ولو كانت الأرض التي تدور عليهما لم يكن القمر تالياُ للشمس بل كان تالياً لها أحياناً وتالية له أحياناً لأنّ الشمس أرفع منه والاستدلال بهذه الآية يحتاج إلى تأمل.
- وقال تعالى: { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }([26]) فإضافة الجريان إلى الشمس وجعله تقديراً من ذي عزة وعلم يدل على أنّه جريان حقيقي بتقدير بالغ، بحيث يترتب عليه اختلاف الليل والنهار والفصول، وتقدير القمر منازل يدل على تنقله فيها ولو كانت الأرض التي تدور لكان تقدير المنازل لها من القمر لا للقمر. ونفي إدراك الشمس للقمر وسبق الليل للنهار يدل على حركة اندفاع من الشمس والقمر والليل والنهار.
- الأحاديث الكثيرة في إضافة الطلوع والغروب والزوال إلى الشمس فإنها ظاهرة في وقوع ذلك منها لا من الأرض عليها.
ولعل هناك أدلة أخرى لم تحضرني الآن ولكن فيما ذكرت فتح باب وهو كاف فيما أقصد. والله الموفق.
ويقول الشيخ ابن باز (وهو المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء بالمملكة، ورئيس إدارة البحوث العلمية والإفتاء منذ 20/1/1414 هـ وحتى وفاته)في فتواه العجيبة:
«القول بدوران الأرض قول باطل والاعتقاد بصحته مخرج من الملّة لمنافاته ما ورد في القرآن الكريم من أن الأرض ثابتة وقد ثبتها الله بالجبال أوتاداً، قال سبحانه وتعالى { وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا }([27]) وقوله جل وعلا { وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ }([28]) وهي واضحة المعنى فالأرض ليست كروية ولاتدور كما بين جل وعلا، وقد يكون دورانها أو تغيرها من غضبه سبحانه، كما في قوله سبحانه: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِير}([29]). والجبال موضوعة في الأرض لترسيتها عن الدوران والتحرّك، قال تعالى {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}([30]), وقال سبحانه {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}([31]), وَقَوْله {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْض رَوَاسِي} أَيْ جِبَالًا أَرْسَى الْأَرْض بِهَا وَقَرَّرَهَا وَثَقَّلَهَا لِئَلَّا تَمِيد بِالنَّاسِ أَيْ تَضْطَرِب وَتَتَحَرَّك فَلَا يَحْصُل لَهُمْ قَرَار.
والأرض تدل على عظمة الخالق سبحانه وهي آية من آياته كبقية آياته العظيمة وقد ذكر الله سبحانه أنّ الشمس والقمر يجريان في فلك في آيتين من كتابه الكريم وهما قوله عز وجل في سورة الأنبياء {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}([32]), وقوله سبحانه في سورة يس: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}([33]), ولم يذكر أن الأرض تدور كما يزعمون.»
ولو كانت الأرض تدور لأخبرنا بذلك الله سبحانه أو نبيه عليه الصلاة والسلام الذي تركنا على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها لايزيغ عنها إلا هالك. والحمد لله رب العالمين.»([34]).
وله كتاب أسماه «الأدلّة النقليّة والحسيّة على جريان الشمس وسكون الأرض»، من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1395 هـ.
ومما جاءَ فيه حول مقولة دوران الأرض:
«وكما أنّ هذا القول الباطل مخالف للنصوص فهو مخالف للمشاهد المحسوس، ومكابرة للمعقول والواقع لم يزل الناس بمسلمهم وكافرهم يشاهدون الشمس جارية طالعة وغاربة ويشاهدون الأرض قارة ثابتة ويشاهدون كلَّ بلدٍ وكلَّ جبلٍ في جهته لم يتغيّر من ذلك شيء»
ثمَّ أضاف:
«ولو كانت الأرض تدور كما يزعمون لكانت البلدان والجبال والأشجار والأنهار والبحار لا قرار لها ولشاهد الناس البلدان المغربية في المشرق والمشرقية في المغرب ولتغيّرت القبلة على الناس حتّى لا يقرّ لها قرار، وبالجملة فهذا القول فاسد من وجوه كثيرة يطول تعدادها»([35]).!!
ثمّ يقول: «فالناس يشاهدونَ الجبال في محلّها لم تسير. فهذا جبل نور في مكّة في محلّه، وهذا جبل أبي قبيس في محله، وهذا أحدٌ في المدينة في محله، وهكذا جبال الدنيا كلها»([36]).
ويقول شيخ مقبل الوادعي (1944 م – 1422 هـ، من مشايخ الوهابية البارزين. من كتبه: (الإلحاد الخميني في أرض الحرمين)، (إسكات الكلب العاوي يوسف القرضاوي)، (المخرج من الفتنة). وصف الشيخ الوادعي كلاً من: حسن البنا، سيد قطب، سعيد حوى، بأنهم من (المبتدعين) و«إنّ حسن البنا أكثر ضلالاً من سيد قطب» كما وصف جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدة بأنهم «ماسونيان كافران»)!: «لو جاءَ علماء الفلك بأجمعهم ما عدلنا عن ظاهر القرآن حتى يتبيّن لنا أمر محسوس»
ويقول: «القول بأن (دوران الأرض حقيقة علميّة) محض تخريف ودجل، ولا يوجد دليل حسّيّ واحد يثبت هذا التهريج، ونقول لمن يطالب بالدليل على ثبوت الأرض: الأدلّة على هذا من القرآن والسنّة كثيرة جدّاً، هذا هو المشاهد والمحسوس فنحنُ كل يوم نرى الشمس تطلع من المشرق وتغيب من المغرب. فهاتوا لنا دليلاً حسياً صالحاً لدوران الأرض ونحنُ نتحدى أن يسلم لكم دليل فضلاً عن أن تكون حقيقة علمية. وهناك من الفلكيين المتحررين من أبناء الشرق والغرب رفضوا هذه الخرافة القائلة بدوران الأرض. وأوّل من أحيا خرافة دوران الأرض بعد فيثاغورس هو كوبرنيكس وكانَ يقول بإلوهية الشمس أن الكواكب تدور حولها طوفان عبادة وأنها مسيطرة على الكون. وقامت على نشر هذه النظرية والذبُّ عنها المؤسسات الماسونية»([37]).
ويقول الشيخ يحيى الحجوري: «وهذه عقيدة جميع المسلمين الذين لم تتلوث فطرهم بمجالسة الملاحدة والزنادقة وأفكارهم، لا تكاد تجد أحداً من المفسرين وغيرهم من السلف الصالح من يوم رسول اللّه (ص) إلى يومنا هذا يقول: إنَّ الأرض تدور والشمس ثابتة. حتى جاء هؤلاء المكذّبون بكتاب اللّه من اليهود والنصارى، وبثوا تلاميذهم بينَ أوساط المسلمين، ليقولوا باسم الدين فيشككوا المسلمين في عقائدهم الصحيحة ويثبتوا لهم عقائد جديدة الحاديّة»([38]).
وقد ألّف الشيخ عبد الكريم بن صالح الحميد كتاباً عنوانه: (هداية الحيران في مسألة الدوران)، يقول فيه: «العلوم العصرية عامة علوم عمّت بها البلوى. منها علوم مفسدة للاعتقاد كالقول بدوران الأرض، وغيره من العلوم الملاحدة»([39]).
وهذا الاتجاه في التفسير الذي يمثله ثلة من (مشايخ الوهابية) في واقعنا المعاصر، يُعبّر عن أمورٍ عديدة:
- مدى بعده عن العصر وحقائقه العلميّة الثابتة والتي يدركها حتّى تلامذة المدارس الابتدائية، فلا زال هؤلاء – ورغم كل الدلائل القاطعة والبراهين الدامغة على دوران الأرض – يعتبرونَ ذلك مجرّد (فرضية) أو (نظريّة) لا ترقى إلى مستوى (الحقيقة) العلميّة، بل أنّ بعضهم يعتبرهُ (خرافة) تروّج لها «المؤسسات الماسونيّة»، و«المكذّبون بكتاب اللّه من اليهود والنصارى»!!
- مدى القراءة الخاطئة للآيات القرآنية المباركة التي تتعامل معها تعاملاً حرفياً وتجزيئيّاً:
- هناك العديد من الآيات التي تشير إلى دوران الأرض بإشارات واضحة، كقوله تعالى: { أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا} ([40])،{يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ}([41])، {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}([42]).
- الآيات التي توصف الأرض بـ(القرار) لا تنافي الحركة والدوران والسبح:{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء}([43]) { أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا }([44]). {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ }([45]). فلا تعارض بين هذه الآيات وبينَ دوران الأرض وسبحها، كما هو واضح.
- مدى التحجّر الذي عليه أصحاب هذا الاتجاه في التفسير بحيث يتشبثون في قضايا علميّة كونيّة بأقوال علماء عاشوا قبل قرون متطاولة كانت فيها العلوم الطبيعيّة ونظرة ساذجة للسماوات والنجوم والحجرات والكواكب، والقرآن يصرخ فينا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}([48]).{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}([49]).
وهذا ما يعبّر عنه بـ(سلطة التراث) التي تمنع المفسِّر من مواكبة التطوّرات والمستجدّات، ويرى حقائق عصره العلميّة مجرّد فرضيات، ومساعي العلماء وجهودهم الحثيثة في اكتشاف أسرار الكون دسائس ومؤامرات!!
ثالثا: المشفقون
هناك العديد من الباحثين الإسلاميين من رفض ظاهرة التفسير العلمي التي راحت تنتشر في النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي، لا لأنّه لا يؤمن بمواكبة القرآن لكلِّ عصر وجيل (الفريق الأوّل)، ولا لأنّه من السلفيين المتحجّرين (الفريق الثاني) الذين يرفعون شعار: (الصحابة أعرف الناس بالقرآن وعلومه)، (وما ترك الأوّل للآخر)، وإنّما لاختلاف القرآن عن العلوم الطبيعية، طبيعةً ومجالاً ومنهجاً، إضافة إلى (جهل) أصحاب التفسير العلمي – العصري، وهم أصحاب الاختصاصات العلمية من الأطباء والمهندسين والجيلوجيين والفيزيائيين..، بمفردات اللغة العربية وقواعدها وأساليبها.
لقد تصدّى العديد من الأعلام لظاهرة الإعجاز العلمي التي قد تسيء إلى القرآن في كثير من الأحيان حينما تنفلت من الضوابط والشروط، ولا تكون ضمن منهج تفسيري صحيح وسليم، مما يظهر أن المفسِّر وكأنّه يلهث وراء الغرب منبهراً بكشوفاته العلمية في مجالات العلوم المختلفة، لتكون هي الميزان فيما يكون القرآن موزوناً، وهي المهيمنة والقرآن تابعاً.
وهنا تكمن خطورة اتجاه التفسير العلمي أو الإعجاز العلمي للقرآن.
ومن أبرز المتصدّين لهذا الإتجاه في عالم التفسير، والمشفقين على القرآن ورسالته في تغيير الأمّة وبناء كيانها:
أولا:الشيخ محمود شلتوت
- في مقدمة كتابه تفسير القرآن الكريم، يعطي شيخ الأزهر محمود شلتوت رأيه في هذه الظاهرة التي بدأت تنتشر في عصره، ورائدها رجال أخصائيون في العلوم التجريبية، تحت شعار:{مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}([50])، ليفسروا القرآن «على أساس من النظريّات العلمية المستحدثة»، ظناً منهم «أنهم بذلك يخدمونَ القرآن ويرفعون من شأن الإسلام»، مما «أفضى بهم إلى صورة من التفكير لا يريدها القرآن، ولا تتفق مع الغرض الذي من أجله أنزله اللّه».
يرى العلامة شلتوت أنّ «هذه النظرة للقرآن خاطئة من غير شكّ»، وذلك لسببين أساسيين:
الأول: إنّ «اللّه لم ينزل القرآن ليكون كتاباً يتحدّث فيه الناس عن نظريّات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف»، وانّ «ما تضمنه من الإشارات إلى أسرار الخلق وظواهر الطبيعة إنما هو لقصد الحثّ على التأمّل والبحث والنظر ليزداد الناس إيماناً مع إيمانهم»، «وحسبنا أنَّ القرآن لم يصادم الفطرة ولم يصادم – ولن يصدم – حقيقةً من حقائق العلوم تطمئنَّ إليها العقول»
ويضرب شلتوت عدّة شواهد على ذلك، بقوله: «حينما سئل رسول اللّه ظاهرة تغيّر حالات القمر يبدو هلالاً ثمَّ يزيد حتى يستدير، ثمَّ ينقص ويدق حتى يعود كما كان، نزل قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}([51]).
وحينما سئل عن الروح نزل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا}([52]).ثم يقول: «أليس في هذا دلالة واضحة على أن القرآن ليس كتاباً يريد اللّه به شرح حقائق الكون، وإنّما هو كتاب هداية وإصلاح وتشريع؟»([53]).
الثاني: إنّها «تعرّض القرآن للدوران مَعَ مسائل العلوم في كُلِّ زمانٍ ومكان، والعلوم لا تعرفُ الثبات ولا القرآن ولا الرأي الأخير، فقد يصحُّ اليوم في نظر العلم ما يصبح غداً من الخرافات»([54]).
ومن الواضح أن الشيخ شلتوت لم يكن يرفض التفسير العلمي بصورة مطلقة، بل يرفض الجري وراء النظريات – فضلاً عن الفرضيات – التي لم تصل إلى مرحلة الحقيقة، والتي لا تزال في طور النظرية أو الفرضية، لأنهُ «قد يصح اليوم في نظر العلم ما يصبح غداً من الخرافات» على حدِّ تعبيره.
وكان ينبغي عليه أن لا يكتفي بهذه الملاحظات العابرة التي لا ترقى إلى مستوى الدليل والبرهان، أو لا تعطي لنا المنهج في التعامل مع تلكم الآيات الكونية التي يزخرُ بها القرآن الكريم، والتي تتحدّث عن آيات اللّه في الآفاق والأنفس: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}([55]).
فهل يمكن لنا أن نكتفي بشعار: «حسبنا أن القرآن لن يصادم حقيقة من حقائق العلوم تطمئن إليها العقول»؟ وحتى هذا المستوى غير الطموح يحتاج منّا أن نجيب على التساؤلات والنظريّات العلميّة التي يزخر بها عالمنا على صعيد الآفاق والأنفس – والتي يدرسها ملايين الطلبة المسلمين في المدارس والجامعات – من خلال عرضها على كتاب اللّه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وإذا كانت النظريّات العلميّة متغيرة ومتحوّلة، فضلاً عن الفرضيات، فإنّ ذلك لا يعدم وجود حقائق علميّة ثابتة أصبحت بفضل الأدلّة والبراهين بمثابة السنن المطردة، والقوانين الثابتة التي لا تعرف التحوّل والتغيّر.
ثانياً:العلامة سيد قطب
المشهور عن سيد قطب أنّهُ من المناوئين لاتجاه التفسير العلمي للقرآن ومحاولات إقحام العلوم الطبيعيّة – وما توصّلت إليه من اكتشافات لإسرار الكون والحياة – في عالم التفسير.
والحقيقة أنَّ سيّد قطب دعا إلى جواز بل وجوب الاستفادة من العلوم الحديثة في «توسيع» مدلول الآيات المباركة التي تتضمن إشارات علمية في الآفاق والأنفس، حيث يقول: «هذا جائز بل مطلوب»([56]).
ويمكن أن نلخص المنهج الذي رسمه سيد قطب للتفسير العلمي وضوابط ربط الآيات القرآنية بنتاج التقدم العلمي في آيات الآفاق والأنفس، ضمن النقاط التالية:
أولاً: القرآن ليس بديلاً عن البحث العلمي
إن القرآن ليس بديلاً عن البحث العلمي في اكتشاف الحقائق العلمية التجريبيّة، «وقد تركها للعقل البشري يعملُ فيها بكامل حريته، ويصل إلى النتائج التي يصلُ إليها بتجاربه»([57]).
القرآن كتابُ إنشاء الإنسان الخليفة المبدع المفكّر الذي يمتلك موازين «التصوير والتدبر والتفكير الصحيح»، كما هو كتاب إنشاء المجتمع الإنساني «الذي يسمح لهذا الإنسان بأن يحسن استخدام طاقاته المذخورة فيه» لـ «يبحث ويجرّب، ويخطئ ويُصيب، في مجال العلم والبحث والتجريب»([58]).
«إنّ مادة القرآن التي يعملُ فيها هي الإنسان ذاته: تصوّره، واعتقاده، ومشاعره ومفهوماته، وسلوكه وأعماله، وروابطه وعلاقاته.. أمّا العلوم الماديّة، والإبداع في عالم المادة بشتى وسائله وصفوفه، فهي موكولة إلى عقل الإنسان وتجاربه وكشوفاته وفروضه ونظريّاته. بما أنّها أساس خلافته في الأرض، وبما أنّهُ مهيّأً لها بطبيعة تكوينه…»
«واني لأعجب لسذاجة المتحمّسين لهذا القرآن، الذينَ يحاولون أن يُضيفوا إليه ما ليس منه، وان يحملوا عليه ما لم يقصد إليه وان يستخرجوا منهُ جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها.. كأنما ليعظموه بها ويكبروه!»([59]).
«إنّ القرآن قد جاء لما هو أكبر من تلك المعلومات الجزئية. ولم يجيء ليكون كتاب علم فلكي أو كيماوي أو طبّي.. كما يحاول بعض المتحمّسين لهُ أن يلتمسوا فيه هذهِ العلوم أو كما يحاول بعض الطاعنين فيه أن يلتمسوا مخالفاته لهذهِ العلوم!»
«إنَّ كلتا المحاولتين دليل على سوء الإدراك لطبيعة هذا الكتاب ووظيفته ومجال عمله»([60]).
ثانياً: القرآن حقائق نهائية قاطعة ومطلقة
إنَّ الحقائق القرآنية حقائق نهاية قاطعة ومطلقة، ونتائج البحث العلمي الإنساني مقيّدة بحدود تجاربه وظروفه وأدواته المتاحة، فمن الخطأ – بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته – أن نعلّق الحقائق النهائيّة القرآنيّة بحقائق غير نهائيّة، فضلاً عن النظريّات والفرضيّات التي هي ليست «حقائق عليمة» حتى بالقياس الإنساني؛ لأنّها قابلةٌ دائماً للتغيير والتعديل والنقص والإضافة، بل «قابلة لأن تنقلب رأساً على عقب، بظهور أداة كشف جديدة، أو بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة!»([61]).
إنَّ «نظريات العلم موضع بحث ومراجعة من العلم ذاته، وهي ليست ثابتة أوّلاً، ثمَّ إنّها ليست نهائية ولا مطلقة أخيراً. فلا تصلح إذن أن تُقاس بها صحّة الرسالة. فالمقياس لابدَّ أن يكون ثابتاً وأن يكون مطلقاً. ومن هنا تكون الرسالة هي المقياس الثابت المطلق الوحيد»([62]).
؛ولهذا فإنَّ «القرآن هو الأصل والنظريات العلمية توافقه أو تخالفه سواء. أمّا الحقائق العلمية التجريبيّة فمجالها غير مجال القرآن. وقد تركها القرآن للعقل البشري يعملُ فيها بكامل حرّيّته، ويصلُ إلى النتائج التي يصلُ إليها بتجاربه، ووكل نفسه بتربية هذا العقل على الصحّة والاستقامة والسلامة، وتحريره من الوهم والأسطورة والخرافة، كما عمل على إقامة نظام للحياة يكفل لهذا العقل أن يستقيم، وأن يتحرر، وأن يعيش في سلامٍ ونشاط»([63]).
ثالثاً: معانٍ ثلاثة (الهزيمة الداخلية، سوء الفهم، التأويل المستمر)
إنَّ محاولات تعليق الإشارات القرآنية العامة بالنظريّات، بل حتى بالحقائق العلميّة، التي هي ليست مطلقة كذلك، هذهِ المحاولات إضافة إلى خطأها المنهجي – كما يرى سيد قطب – فإنّها تنطوي على معانٍ ثلاثة لا تليق بجلال القرآن الكريم:
المعنى الأوّل: «الهزيمة الداخلية التي تخيّل لبعض الناس أنَّ العلم هو المهيمن والقرآن تابع. ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم، أو الاستدلال لهُ من العلم…»
المعنى الثاني: «سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته، وهي أنّهُ حقيقة مطلقة تعالج بناء الإنسان بناءً يتفق مَعَ طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي، حتى لا يصدم الإنسان بالكون من حوله، بل يصادقه ويعرف بعض أسراره، واستخدم بعض نواميسه في خلافته. نواميسه التي تكشف لهُ بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق…»
المعنى الثالث: «التأويل المستمر – مع التمحّل والتكلّف – لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر. وكُلُّ يومٍ يجدُّ جديد»([64]).
رابعاً: الكشوفات العلميّة توسّع مدلولات الآيات القرآنية
يؤكّد السيد قطب أنَّ ما قدّمه من محاذير في الموقف من التفسير العلمي «لا يعني ألا ننتفع بما يكتشفه العلم من نظريات – ومن حقائق – عن الكون والحياة والإنسان في فهم القرآن.. كلا! إنّ هذا ليس هو الذي عنينا بذلك البيان، ولقد قال الله سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}([65])ومن مقتضى هذه الإشارة أن نظلَّ نتدبَّر كلَّ ما يكشفه مدى المدلولات القرآنية في تصورنا»([66]).
ويضرب لذلك مثالاً، في قوله تعالى:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}([67]). فإذا كشفت «الملاحظات العلمية أنَّ هناك موافقات دقيقة وتناسقات ملحوظة بدقة في هذا الكون.. الأرض بهيئتها هذهِ وببعد الشمس عنها هذا البعد، وبعد القمر عنها هذا البعد، وحجم الشمس والقمر…»، فإنّ «هذه الملاحظات تفيدنا في توسيع مدلول:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}([68]). وتعميقه في تصورنا.. فلا بأس من تتبع هذهِ الملاحظات لتوسيع هذا المدلول وتعميقه.. وهكذا.. هذا جائزٌ ومطلوب».
وفي المقابل يضرب مثلاً بعدم الجواز، في قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ}([69]). حينما نحمل هذا النص على نظرية دارون في النشوء والإرتقاء، و«نلهثُ وراء النظرية لنقول: هذا هو الذي عناه القرآن!!»([70]).
وكما في قول تعالى:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}([71])، لنحمله على النظرية التي ترى بأنّ الأرض كانت قطعة من الشمس ثمَّ انفصلت عنها، و«نلهثُ لندرك هذه النظرية العلمية، ونقول: هذا ما تعنيه الآية القرآنية!»([72]).
ومن خلال هذهِ النقاط الأربع يفرّق سيد قطب في منهجه التفسيري للآيات (العلمية) بينَ منهج الانتفاع والتوسيع والتعميق، ومنهج التعليق والتطابق والتصديق، وذلك من خلال «الانتفاع بالكشوفات العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها، دون تعليقها بنظرية خاصّة أو بحقيقةٍ علمية خاصّة تعليق تطابق وتصديق.. وفرقاً بين هذا وذاك»([73]).
ولهذا فإنّهُ كثيراً ما يلجأ في تفسيره الظلال إلى ما توصلت إليه المعرفة الإنسانية في مسيرتها العلمية، ليحدّثنا عن ««قانون الوحدة في هذا الوجود»، من خلال «الذرة» التي هي «أساس البناء الكوني كلِّه»، وكيف تتحوّل إلى «طاقة»، وما تتألف من الكترونات تدور في فلك حول النواة»([74]).
وفي تفسيره لآية {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}([75])، يقرأ فيها «الوعد الإلهي» لعباده أن «يطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون، ومن خفايا أنفسهم على السواء، وعدهم أن يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم، حتى يتبيّنَ لهم أنّه الحق. هذا الدين. وهذا الكتاب. وهذا المنهج..».
«ولقد صدقهم الله وعده؛ فكشفَ لهم عن آياته في الآفاق في خلال القرون الأربعة عشر التي تلت هذا الوعد، وكشفَ لهم عن آياته في أنفسهم. وما يزال يكشف لهم في كُلِّ يوم عن جديد..»([76])، «ولم تكن فتوحات العلم والمعرفة في أغوار النفس بأقل منها في حسبهم الكون»([77]).
وفي الوقت الذي يستفيد فيه المفسِّر من كشوفات العلم وفتوحاته في توسيع مدلولات الآيات القرآنية، يعود لينبّه إلى تلك الملاحظة المنهجية في العامل مَعَ تلك الكشوفات فيقول: «وما أسوق هذا الكلام لأنَّ العلم الحديث يرى أنّه قد أدرك ظاهرة أو ظاهرتين من ظواهر الوحدة الكونية. فالعلم يُثبتُ أو ينفي في ميدانه. وكُلُّ ما يصل إليه من (الحقائق) نسبيّ جزءه مقيّد؛ فهو لا يملك أن يصل إلى حقيقةٍ واحدةٍ يكذّب بعضُها بعضاً، ويعدِّلُ بعضُها بعضاً»([78]).
وما فتئ صاحب الظلال يدعو المنبهرين بالغرب المقلِّدين، الذين «يعيشون على فتات القرون الماضية ويزعمون أنَّ الغيبيّة تنافي العمليّة»([79]), أن «يعيشوا زمانهم»، ولا يكونوا «متخلّفين عن مقررات تجاربه»؛ «ليستيقنوا أنّ (الغيب) هو الحقيقة (العلمية) الوحيدة المستيقنة من وراء كلّ التجارب والبحوث والعلم الإنساني ذاته! وأنّ (العلمية) في ضوء التجارب والنتائج الأخيرة مرادفة تماماً (للغيبيّة)»([80]).
وقد أدرك الغرب هذه الحقيقة، وصرّح بعض علمائهم أن «نتائج العلوم تقريبيّة، وعرضة للأخطاء المحتملة في القياس والمقارنات، ونتائجها اجتهاديّة، وقابلة للتعديل بالإضافة والحذف، وليست نهائية. وإننا لنرى أنَّ هذا هو ما وصلنا إليه حتّى الآن، ويترك الباب مفتوحاً لما قد يستجدّ من التعديلات»([81]).
ملاحظة نقديّة
الملاحظة الأولى:>يرى المفسّر سيد قطب أنَّ القرآن الكريم «لم يتعرض لذكر شيء من الحقائق العلمية إلّا نادراً».
مع أننا لو أحصينا الآيات (العلمية) في القرآن الكريم لأربت على الألف، والتي تتضمن إشارات علمية رائعة في الآفاق والأنفس. فقد تحدّث القرآن عن السماوات والأرض وما فيهما من نجوم وكواكب وجبال وأنهار وبحار، كما تحدّث عن خلق الإنسان وأطوار نموّه وتخلقه، وسنن التأريخ، وقوانين المجتمع، وطبيعة النفس البشريّة وما يعتملُ فيها من عواطف وغرائز ودوافع.
ولا يمكن أن نفهم هذهِ الآيات المباركة والإشارات إلّا بالاستعانة بالعلوم والكشوفات الحديثة، وما فتح اللّه للعقل الإنساني من أن يصل إلى حقائق الكون وأسراره، وكذا من النفس وأغوارها. وبذلك تتوسّع مدلولات تلكم الآيات وندرك بعض خفايا تلك الإشارات.
ولا يسع المجال لأن نذكر مئات الآيات المباركة التي يمكن أن نفسّرها على ضوء الحقائق العلمية. فمن الخطأ بمكان أن نقول بأنّ القرآن «لم يتعرّض لذكر شيء من الحقائق العلمية إلّا نادراً»!
الملاحظة الثانية: ومن الخطأ كذلك أنْ نعمم ونقول بأنَّ الحقيقة العلميّة «دائماً احتمالية وليست قطعيّة»([82]).
فإذا كانَ الأمر كذلك، فما هو الفرق – إذن – بينَ (الحقيقة العلميّة) و(النظريّة) و(الفرضيّة)؟
يقول سيد قطب: «وفرق بينَ الحقيقة العلمية والنظرية العلمية. فالحقيقة العلمية قابلة للتجربة – وإنْ كانت دائماً احتمالية وليست قطعية – أما النظرية العلمية فهي قائمة على فرض يفسِّر ظاهرة كونية أو عدّة ظواهر، وهي قابلة للتغيير والتبديل والانقلاب.. ومن ثمَّ لا يحمل القرآن عليها ولا تحمل هي على القرآن»([83]).
ثمَّ يقول: «وتلمّس موافقات من النظريات (العلمية) للنصوص القرآنية هو هزيمة لجديد الإيمان بهذا القرآن واليقين بصحة ما فيه وانّهُ من لدن حكيم خبير. هزيمة ناشئة من الفتنة (بالعلم) وإعطائه أكثر من مجاله الطبيعي الذي لا يصدق ولا يوثق به إلّا في دائرته. فلينتبه إلى دبيب الهزيمة في نفسه من يحسب أنّهُ بتطبيق القرآن على (العلم) يخدم القرآن ويخدم العقيدة»([84]).
وهذا النصّ وإن فرّق بينَ الحقيقة العلمية والنظريّة، بيد أنّه يجعل الأولى – كذلك – احتمالية دائماً لا قطعيّة، مع أنّ الحقيقة العلمية لا تُسمّى كذلك إلّا إذا كانت ثابتة وقطعية، وإلّا لا ترتقي إلى مرحلة (الحقيقة) بل تبقى في المرحلة الثانية (النظرية) أو الأولى (الفرضيّة).
فمن الخطأ أن نتبنى مقولة تغيّر الحقيقة وانقلابها، فإنَّ الحقيقة تبقى حقيقة مادامت قائمة على أدلة وحجج وبراهين، وإنّ مقولة (العلم متغيّر) لتشمل العلم في مرحلتي النظرية والفرض، أما إذا ارتقى العلم إلى مرحلة (الحقيقة) فلا احتمال لتغيره وتبدّله؛ لأنّ الحقائق مطلقة كالسنن والقوانين: { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً }([85]).
كما أنّ مقولة (إعادة النظر) في الحقائق العلمية مقولة ليست صحيحة لأنه إذا أعاد العلم النظر في (الحقيقة) واكتشف خطأها فهذا يعني أنها من الأصل ليست بحقيقة، وإنما هي مجرّد وهم بالغنا فيه خطأ لنعتقد أنّهُ حقيقة، كما كانوا يعتقدون بـ(حقيقة) ثبوت الأرض ودوران الشمس.
إنَّ بيضوية الأرض ودروانها حول نفسها وحول الشمس من الحقائق العلمية الثابتة التي لا يمكن أن تتبدّل وتتغيّر، فلا يمكن أن يأتي يوم – مهما تطور العلم وتقدّم – ليثبت أنَّ الأرض مُسطحة وأنّها ثابتة لا تدور. بل إنَّ التطوّر العلمي سيُجلي هذه الحقيقة أكثر فأكثر، يوماً بعد يوم. بينما تفسير نشوء الكون عن طريق (الانفجار العظيم) قد يتغيّر، لأنّهُ في طور (النظريّة)، التي لها شواهدها ودلائلها، فيمكن أنْ نفسِّر آية (الرتق والفتق) على ضوئها كاحتمال في التفسير، وليس هو التفسير القطعي والأخير، ما دامت لا ترقى إلى مستوى الحقيقة القطعيّة بعد. وهذا ما يفعله أصحاب الإعجاز البلاغي كذلك، فإنهم يطرحونَ تفسيراتهم كاحتمالات ممكنة، وكثيراً ما تكون خاطئة مع مرور الزمن، ليتحوّل المجاز إلى حقيقة، والمعنى إلى معنى آخر
([1]) انظر:الصدر ,محمد باقر , المدرسة القرآنية, ص35-36,نشر مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر,ط3,لسنة1426هـ.
([2]) نهج البلاغة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام , ج2 ص54,نشر دار الذخائر قم,ط1,لسنة 1412هـ.
([3])انظر:الصدر ,محمد باقر , المدرسة القرآنية, ص28-36,نشر مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر,ط3,لسنة1426هـ.
([5]) موقع: www.wavid-13.com دراسات دين مقارن. ردّ على وهم الإعجاز العلمي في القرآن.
([7]) ابن منظور, العلامة جمال الدين, لسان العرب،ج3ص252.
([8]) زكريّا, أحمد ابن فارس, معجم مقاييس اللغة,ج3 ص288, تحقيق محمد عبد السلام محمد هارون.
([10]) ما يقال عن الإسلام، عباس محمود العقاد/ 159 نقلاً عن كتاب زويمر (بلاد العرب مهد الإسلام)
([11])يعد صموئيل زويمر من أكبر أعمدة التنصير في العصر الحديث، ومن الحاقدين على الإسلام والقرآن، ومن مقولاته الشهيرة، وهو يخاطب المؤتمرين في مؤتمر القدس التنصيري عام 1935م: «إنَّ مهمة التبشير التي ندبتكم لها الدول المسيحيّة في البلاد الإسلامية ليست في إدخال المسلمين في المسيحيّة فإنَّ في هذا هداية لهم وتكريماً، وإنّما مهمتكم هي أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة لهُ باللّه، وبالتالي لا صلة لهُ بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها»!!
ومن كلماته في كتاب (العالم الإسلامي اليوم): «تبشير المسلمين يجب أن يكون بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم لأنَّ الشجرة يجب أن يقطعها أحد أعضائها»!!
وفي الكتاب ذاته يخاطب المستشرقين والمبشرين قائلاً: «إنكم أعددتم نَشْأً لا يعرف الصلة باللّه، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي جاء النشيءُ طبقاً لما أراده الاستعمار، لا يهتم بعظائم الأُمور ويحبُّ الراحة والكسل ..»
شفل صموئيل رئيس التحرير المجلّة التبشيريّة الشهيرة (العالم الإسلامي) (The Muslim World) لمدة 37 سنة، منذُ العدد الأوّل 1911م وحتى 1947م.
أسس عام 1978م معهداً باسمه لأبحاث تنصير المسلمين في ولاية كاليفورنيا بأمريكا، من مهماته إعداد دورات تدريبيّة لإعداد المبشّرين وتأهيلهم.
ومن كلماته الشهيرة في مؤتمر التبشير في لكناو بالهند عام 1911م: «إنّ الانقسام السياسي الحاضر في العالم الإسلامي دليل بالغ على عمل يد اللّه في التأريخ واستثارته للديانة المسيحيّة كي تقوم بعملها»!
ومن المفارقات الكبرى أن يكون رئيس جمعيات التنصير في الشرق الأوسط، يهوديّاً!
([34]) موقع www.net firms.com فتوى عبد العزيز بن باز في تحريم القول بدوران الأرض
([35]) الأدلة الحسيّة على جريان الشمس وسكون الأرض…/ 23، مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، سنة 1395 هـ
([37]) صفحات الشيخ مقبل بن هادي الوادعي
([38]) راجع كتاب: الصبح الشارق، يحيى الحجوري ردّاً على كتاب (توحيد الخالق) للشيخ الزنداني؟؟.
([39]) هداية الحيران لعبد الكريم بن صالح الحميد/ 11؟؟
([53]) شلتوت ,الشيخ,تفسير الشيخ شلتوت ج11 ص14,نشر دار الشروق، مصر.
([56]) في ظلال القرآن,ج1 ص173.؟؟
([57]) في ظلال القرآن ج4 ص1858.
([58]) في ظلال القرآن ج1 ص182.
([59]) في ظلال القرآن ج1 ص181.
([60]) في ظلال القرآن ج1 ص181.
([61]) في ظلال القرآن ج1 ص182.
([62]) في ظلال القرآن ج1 ص180.
([63]) في ظلال القرآن ج4 ص1858
([64]) في ظلال القرآن ج1 ص182.
([66]) في ظلال القرآن ج1 ص182.
([76]) في ظلال القرآن ج 5 ص3130.
([77]) في ظلال القرآن ج 5 ص3131.
([78]) في ظلال القرآن ج1 ص280.
([79]) في ظلال القرآن ج 2 ص1119.
([80]) في ظلال القرآن ج 2 ص1115.
([81])في ظلال القرآن ج 2 ص1116, مقتبس من كتاب: (اللّه يتجلّى في عصر العلم) نقلاً عن العالم الطبيعي والفيلسوف الأمريكي ماريت ستانلي كونجدن
([82]) في ظلال القرآن ج4 ص1858.
([83]) في ظلال القرآن ج4 ص1858.